عن استثمار "طال عمره"

عن استثمار "طال عمره"

04 أكتوبر 2018
المستثمر الأجنبي سرعان ما يلم حقائبه عند الخلاف (Getty)
+ الخط -
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ومع الظهور القوي لفكرة ومصطلح العولمة، شهدت التدفقات الرأسمالية العابرة للأوطان طفرة كبيرة، واستطاعت العديد من بلدان شرق آسيا في ذلك الوقت اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، الأمر الذي أحدث طفرة في تلك الاقتصادات، وفي نفس الوقت لفت النظر إلى أهمية الاستثمار الأجنبي في خلق العديد من الفرص في الدول النامية، وفي مساعدتها لتحقيق معدلات النمو المرتفعة.

تتسابق الدول النامية والناشئة على اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية الباحثة عن فرص التربح. فالشركات في تلك الدول تحتاج إلى السيولة اللازمة لتمويل عمليات التوسع، كما تحتاج إلى الخبرات التي يفترض أن تأتي مع هذه الأموال.

ومن ناحية أخرى، فإن حكومات تلك الدول تحتاج إلى تدفق مستمر من رؤوس الأموال الأجنبية، يضمن لها تجنب أو علاج أي عجز في موازين مدفوعاتها، كما يوفر الاستثمار المطلوب في البنية التحتية والطاقة والماء، وهو ما يعزُف عنه عادة الاستثمار المحلي في تلك الدول.
وأثبتت الدراسات أن تواجد الاستثمار الأجنبي في البلدان النامية والناشئة يساعد بصورة كبيرة على الحد من الفساد والمحسوبية وتدخل السياسة في الأعمال، بالاضافة إلى تأثيره الايجابي على خلق فرص العمل ورفع الأجور.

وبالطبع، لا يمكن تجاهل ما يذهب إلى خزانة الدولة من ضرائب إضافية كنتيجة حتمية لكل ما سبق.

وتحمست الدول النامية والناشئة أيضاً لما رأت أن الاستثمار الأجنبي المباشر يساعد على الحد من تقلبات الأسواق المصاحبة لدخول الأموال الساخنة، على غرار ما شهدناه مؤخراً في تركيا والأرجنتين وغيرها.

دخلت الأموال الساخنة تلك الأسواق، مستفيدة من ارتفاع معدلات الفائدة المحلية، وضعف كبير في قيمة العملة لا يتناسب مع قوة الاقتصاد في أغلب الأحيان، فأحدثت فقاعة في العقارات والأسهم وغيرها من الأصول، ثم ما لبثت أن خرجت مع بداية ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية.
هذا النوع من الأموال الساخنة كفيل بتدمير اقتصادات والإجهاز على أنظمة سياسية، ولذلك تفضل الحكومات الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يحتاج إلى وقت أطول في الدخول والخروج.

لكن الأمر المؤكد أيضاً هو أن الاستثمار الأجنبي أيضاً لا يأتي بلا عيوب. فمن ناحية، يتعين على الحكومات ألا تسمح للمستثمر الأجنبي بتملك الشركات بلا قيود في القطاعات الاستراتيجية، التي يطمع المواطن في الحصول على خدماتها بأسعار مقبولة، كما ينبغي وضع الاشتراطات اللازمة، التي تضمن عدم تسبب المستثمر الأجنبي في الإضرار بتنافسية الدولة، أو هدم منظومة القيم فيها.

ومن ناحية أخرى يتعين على الحكومات ألا تسمح للمستثمر الأجنبي بتجريد الشركات التي يستحوذ عليها من قيمتها، دون الإضافة إليها. فبعض هذه الأنواع من الاستثمارات تشتري الشركات المحلية "بحلوها ومرها"، ثم ما تلبث أن تعيد بيع المكونات غير الرابحة فيها لمستثمرين محليين قليلي الخبرة، الأمر الذي يتسبب في خسائر جسيمة للسوق المحلية، في حين تخرج الأرباح من السوق، بعد تحويلها إلى الشركة الأم التي يتبعها المستثمر الأجنبي.
الأمثلة كثيرة على الاستثمارات الأجنبية التي لا تفيد الأسواق المحلية، ومنها الاستثمارات العقارية والسياحية والفندقية الخليجية، وبصفة خاصة السعودية والاماراتية، في السوق المصرية.
هذه الاستثمارات استغلت احتياج الحكومة المصرية للنقد الأجنبي في مراحل سابقة، فأقبلت على شراء مساحات شاسعة من الأراضي، في أفضل المواقع، سواء كان منها ما يمثل امتداداً طبيعياً للعاصمة، أو ما ينتشر على ساحل البحر الأحمر والبحر المتوسط، بأسعار زهيدة.

مشروعات ضخمة، وحجم إنفاق مهول، غير معتاد في السوق المصرية، من أجل إنشاء وحدات لن يتم تعميرها قريباً، أو ستبقى شاغرة أغلب فترات السنة.

لا تضيف تلك الاستثمارات قيمة حقيقية للاقتصاد، رغم ما تسببه من زيادة ضعيفة في الناتج المحلي. لا تُوجِد منتَجا يتم تصديره فيأتي بالعملة الصعبة ليحسن ميزان المدفوعات، ولا تنقل تكنولوجيا حديثة، ولا تستفيد بخبرات إدارية جديدة على السوق المصرية، ولا يوجد بها مكان للمبتكرين ورواد الأعمال الذين يقودون الاقتصاد العالمي في وقتنا الحالي، وكل إضافاتها لسوق العمل مؤقتة، حيث تنتهي بانتهاء عمليات البناء والتسليم للمشترين.

لكن أسوأ أنواع الاستثمار الأجنبي هو المبني على مزاج الأفراد، الذين يأتون إلى السوق بأموالٍ ضخمة، لا تتناسب مع أهمية النشاط، فتُحدث ما تُحدِثه في الاقتصاد والقطاع الموجهة إليه، ثم ما يلبث المستثمر الأجنبي مع أول خلاف أن يلم حقائبه ويخرج من السوق، ضارباً عرض الحائط بكل الأعراف والعقود، مطمئناً إلى عدم محاسبته على أعماله، ومتأكداً من عدم قدرة شركائه المحليين على المطالبة بأية شروط جزائية، بسبب تداخل الخطوط السياسية بيننا وبين بلاده!
هذا النوع من المستثمرين يذكرني بسنوات الطفولة، حينما كان من يملك الكرة في الشارع الذي نسكن ونلعب فيه هو عادةً أقل اللاعبين كفاءة، ومع ذلك يكون هو المتحكم في أغلب قوانين اللعب. فيسمح لفلان أن يشارك في اللعب ويمنع فلان، ويمنح نفسه استثناء من حراسة المرمى، وهي المهمة التي كان يتبادلها كل اللاعبين، كما أنه يتمتع بحصانة من توبيخ من كان يعتبر "الكابتن" لنا، مهما ساء أداؤه في أي من المباريات.

صاحب الكرة هذا اشتهر بأنه يأخذ كرته في كل مرة لا يعجبه أمر ما، ويذهب إلى بيته، فينتهي اللعب بأمره على الجميع، وتنفض المباراة.

لم يتعظ هذا المسكين، طال عمره، إلا عندما اتفق الجميع على منعه تماماً من اللعب معنا لفترة، كانت كفيلة بتعليمه قواعد وأصول اللعب، وما يحق له وما يجب عليه كمالك للكرة، قبل أن يعود مرة أخرى لمشاركتنا في اللعبة.

وقتها فقط أدرك أن النتيجة الطبيعية لتسلطه ستكون خسارته هو شخصياً، خاصة بعد أن دفع كل منا مبلغا بسيطا واشترينا كرة تسمح لنا بالاستغناء عنه وعن خدماته.

المساهمون