كيف واجهت المرأة السورية الحرب؟

كيف واجهت المرأة السورية الحرب؟

19 اغسطس 2017
+ الخط -



كانت الحرب في سورية، ولا تزال، ظرفاً قاسياً، حملت معها كل أشكال التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وكانت تجربة جديدة أغرقت السوريين في تفاصيل لم تكن في الحسبان، فمنهم من استطاع مواجهة تلك الظروف، وما زال يحاول ذلك، ومنهم من اختار مغامرة السفر؛ ولا نغالي إن قلنا إن المرأة السورية قد أبدت كل ما تستطيع من قدرات لتواكب تلك التغييرات، وأكثر الأحيان لتتغلب عليها أيضاً.

وتعد تجربة النزوح التجربة الأكثر مرارة، والأكثر غرابة عن الأسرة السورية، فقد وجدت الآلاف من الأسر السورية نفسها مضطرة للانتقال من مدينة تعيش الحرب بكل أبعادها التدميرية، إلى مدن أكثر أماناً، عساها تبعدها عن مخاوف فقدان أولادها، وكانت تجربة النزوح قاسية وموجعة، وكان على الأسرة أن تواجه صعوبات جديدة وفي جميع النواحي، وأهمها الاقتصادية، وما ترتب عليها من فرض أشكال جديدة من التعاون حيناً بين الأب والأم، أو رفض تام لعمل المرأة نتيجة الموروث الاجتماعي السائد، أو تحمل الأعباء من طرف الأم وحدها بسبب غياب قسري للوالد في المعتقل، أو وفاة، وقد أثبتت المرأة السورية، عن جدارة، قدرتها على لم شمل الأسرة، وإعالتها، ولا ننكر هنا المتاعب الكبيرة التي واجهتها كأنثى أولاً، وكأم ثانياً، فضلاً عن الصعوبات التي تتحمّلها مع أولادها بمختلف أعمارهم ومتطلباتهم النفسية أولاً، والاقتصادية ثانياً.

أم فيصل: سيدة من محافظة حلب نزحت إلى حماة مع أطفالها الخمسة، لتواجه مأساة السكن، والعمل لتأمين إيجار هذا السكن، ومن ثم، لتأمين متطلبات أبنائها المعيشية والدراسية، من دون أن ترفض شكل العمل، وما يخبئه لها من أخطار أو متاعب، فنراها في أحد المتاجر تبيع الألبسة، وتنظف المتجر، وتعود لمنزلها، وقد أرقها خوفها على أطفالها الصغار، لتواجه مع نهاية دوامها اليومي مشاكل أخرى، وهذه المرة تكمن في احتياجات أولادها النفسية وتعويضهم عن حرمان الوالد وأضرار الحرب المدمرة، بما خلفته من مخاوف وعقد تكاد تكون أصعب بكثير من أي أزمة مادية أخرى.

كما أن المرأة وجدت نفسها أمام مناخ اجتماعي جديد لا يخلو من استغلال تجار الحروب لظروفها ومعاناتها، فقبلت العمل بنصف أجرها لتعيل أسرتها، أو نجدها تبحث عن موارد إضافية ممكن أن تساعد في حياة مقبولة كالمعونات التي توزّعها المنظمات في الدول التي تعاني الحرب، فقد أكسبتها الحرب معاني أخرى للحياة لم تكن لتقبلها قبل الحرب، ووضعتها ظروفها أمام أشكال جديدة من الحياة اضطرت للتعايش معها، وقبولها مرغمةً لأنها في أكثر الأحيان غدت المعيل الوحيد لأطفالها.

أم سمر: امرأة حمصية استشهد زوجها نتيجة تفجير وقع في مدينة حمص، أودى بحياته، ودمر بيتها، فاضطرت للنزوح إلى محافظة الحسكة لتبدأ حياة جديدة، مع أولادها الثلاثة، ولم ترفض أم سمر فرصة العمل التي قُدمت لها للعمل في إحدى ورشات الخياطة التابعة لجمعية خيرية، بل استطاعت بجدارة، وبعد فترة قصيرة، أن تكون مديرة الورشة لما أبدته من نشاط وحرفية وإتقان، وابتسامتها التي لا تفارقها كانت محفزاً لنا لسؤالها عن حياتها الآن، وتقول أم سمر: "لقد بدأت حياتي مع أولادي هنا من لا شيء، وأذكر أن ثمن سفرنا للحسكة قد دفعه لي أحد الجيران في حمص، وحين أتيت لهنا كان همي الأول تأمين مسكن، وقد عشت في جامع مع أولادي لفترة قصيرة إلى أن استطعت أن أجد مسكناً متواضعاً وعملاً، كان هو سبب استمرارنا للآن". وتكلمت أم سمر عن الصعوبات التي واجهتها مع الحياة الجديدة، وعن طموحها بمساعدة أولادها لإكمال دراستهم الجامعية، وهي تعلم أن زوجها لو كان حياً لرفض عملها، ولكنها تقول: "إنها الحرب وظروفها".

ولا يخفى على أحد ما أبدته المرأة السورية من قدرة مذهلة على مواجهة الصعاب في الظروف الجديدة التي فرضتها الحرب، كذلك من خلال ما تحملته من المسؤوليات لحماية عائلتها ومؤازرتها في زمن الحرب، كذلك في تأدية المهام اليومية بصفتها ربة منزل، فكانت مصدر دخل للأسرة، كما شاركت بشكل فعال وملحوظ في حماية مجتمعها المحلي، والحفاظ على ما أبقته الحرب حيناً، والدعم والمؤازرة للأسر الأخرى في هذه الحرب.

لن نقول إن الصورة التي تعكس حال النساء السوريات زمن الحرب وردية، بل لا نستطيع أن نقول ذلك، فما افتقدته المرأة كان كبيراً، وما ترتب عليها كان أكبر، وفي زمن كان لعمل المرأة وجهات نظر مختلفة وأكثرها رافض، نجد المرأة في الزمن الآخر، زمن الحرب، وقد أصبح خيار العمل واجباً ملحاً عليها، حتى في حال وجود الزوج بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية.

ويبدو لنا من جهة ثانية، أن المرأة السورية تحملت أعباء نفسية وضغوطات اجتماعية كبيرة، ففقدان زوجها، نتيجة موت أو اعتقال أو سفر، قد وضعها بمواجهة تلك الأعباء وحدها، مضافاً إليها ترميم الهوة الكبيرة التي خلفها غياب الأب عند الأولاد.

وان كنا سابقاً قد ركزنا على ما عانته الأم بشكل خاص في ظل الحرب، فإننا لن نغفل ما تتحمله الفتيات من وطأة الحروب اليوم، كونهن عرضة، خاصة، للعنف الجنسي، والتشرد أيضاً، وفقدان الاتصال بالأهل، أو ضياعهن، ما دفع كثيراً منهن إلى الزواج في عمر صغير، وهو ما يسمى زواج القاصرات، أو الزواج غير المتكافئ، خوفاً من الضياع والتشرد، كذلك نجد كثيراً من الفتيات في ما يسمى دور الإيواء التي أفرزتها الحرب كحلٍ مؤقت لمشكلة الأسر أو الفتيات أو الأطفال الذين شردتهم الحرب.

وندرك تماماً مأساة العيش المشترك في تلك المراكز التي تحرم الإنسان من أبسط حقوقه في الاستقلالية.

وأخيراً، نقول: ما زالت الحرب قائمة، وما زالت المرأة قادرة على مواجهتها بما أوتيت من عزيمة، وإيمان، وما زلنا نراهن في الأسواق والمصانع يعملن ليعلن أسرهن أو لتأمين احتياجاتهن اليومية أو التعليمية، وما زالت هناك أم تنتظر عودة ابنها المعتقل وإلى جوارها أم أخرى ترفض أن يكون ابنها استشهد حقاً، وفي مكان آخر زوجة تنتظر لمَّ الشمل مع زوجها في دول المهجر وابنة تنتظر قرار عائلتها بمصير حياتها، إما الزواج المبكر وإما إكمال دراستها وتحمل أعباء تلك الدراسة. ما زلن جميعاً ينتظرن انتهاء الحرب والبدء بالعودة إلى بيوتهن من دون الخوف من شظايا القذيفة أو مرارة التفجير.

وما زالت هناك في ركن بعيد من سورية، أم تحتضن ابنها الذي بُتِرَت ساقاه في الحرب، وتطمئنه أنه سينال نصيبه الجميل من العلاج، وما زلنا جميعا كأمهات سوريات نقنع أطفالنا بأن الغد أجمل، وبأن ما خسرناه سيعوض.

8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.