أعلام الأدب (1) سومرست موم

أعلام الأدب (1) سومرست موم

01 اغسطس 2019
+ الخط -

على شاطئ الريفيرا، وبعد انتظار طويل، كان لنا هذا اللقاء مع علم من أعلام الأدب، ويليام سُومَرْسِت موم! في بداياته لم تكن لديه ملكة أدبية، لكنه ثابر حتى أضحت إحدى رواياته من أفضل روايات القرن العشرين، وحفر اسمه مع عظماء الأدب الإنكليزي أمثال توماس هاردي والأيرلندي جورج برنارد شو. تأثر بالفرنسي غي دو موباسان، وتأثر به عدد من ألمع أدباء القرن الماضي، منهم جورج أورويل وإيان فليمنغ. نطوف معه في عالمه الخاص، ونقف على ملامح عبقريته وسجاله مع الموت والحياة والنقاد.

النشأة وعوامل التكوين:

ينتمي لأسرة أيرلندية الأصل من السلالة السلتية، يلتقي مع ونستون تشرشل في القرابة عند دوق ملبره. هاجرت عائلته منذ قرون إلى مقاطعة وستمورلاند الإنكليزية، وبلغ أفرادها أسمى المراتب والمناصب؛ فأثناء الحرب النابليونية، تعرَّض جده لخسائر مالية كبيرة، وأرسل ابنه إلى لندن لدراسة القانون؛ ليصبح روبرت أرماند موم محاميًا معروف المكانة، ومؤلفًا لعدد من الكتب القانونية. كان مغرمًا بالأدب والفن، وعضوًا عاملًا في "جمعية القانون" وأحد مؤسسيها، وأهدته الجمعية تمثالًا لفيل أبيض ضخم مصنوع من الفضة، احتفظت به الأسرة من بعده 80 عامًا. 

عُيِّن والده بعد سنة 1850 مستشارًا قانونيًا للسفارة البريطانية في باريس، وظل في المنصب حتى وفاته سنة 1884. أما والدته فسيدة أرستقراطية، تعود أصولها إلى الملك إدوارد الأول، ملك إنكلترا المتوفى سنة 1307م، واشتهرت بصالونها الأدبي في باريس، تردد عليه كبار الأدباء أمثال بروسبر مرميه، وكانت من أجمل نساء عصرها. كانت تصغر زوجها بـ20 عامًا، أنجبت ستة أبناء، منهم اثنان يكبران ويليام، الأول يدعى تشارليز، ومشى في ركاب أبيه المهنية والتجارية، والثاني فريدريك واحترف المحاماة، ولاحقًا أمسى وزيرًا ونال لقب "اللورد"، ثم ويليام المولود في 25 يناير/كانون الثاني 1874.

عن ذكريات طفولته يقول: إن ميلادي في فرنسا صدفة جميلة؛ فكان مقررًا أن تسافر أمي إلى بلدها الإنكليزي، وأن تلدني هناك بين أهلها، كما العادة في كل أرجاء المعمورة، لكن والدي مرض فجأة، ما اضطرها إلى تغيير مخططها والبقاء إلى جانبه؛ فألغت الرحلة وولدتني في مدينة النور. في القانون الفرنسي، كل من يولد على الأرض الفرنسية، يمكن أن يخدم في الجيش الفرنسي؛ فاحتال والدي على هذا القانون بأن وضعتني أمي في السفارة، وبهذا أكون قد ولدت على أرض بريطانية.

نشأت في بيت أبي المستشار القضائي للسفارة البريطانية بباريس، وتوفيت أمي بمرض الدرن (السُّل) وأنا في سنٍ مبكرة - ربما كنت في الثامنة يومها - ثم لحق بها أبي وأنا في سن العاشرة أو قبلها بقليل، بعدما أصيب بسرطان المعدة سنة 1884. وقيل لي إن أبي توفي وأنا ابن السادسة، وماتت أمي وأنا ابن العاشرة، وبعد موتها، أخرجوني من المدرسة الفرنسية، وألزموه حجرات القس الإنكليزي بالسفارة البريطانية بباريس، تمهيدًا لوصول من يكفلني من عائلتي، المهم - في الأمر - أنهما ماتا وأنا في بواكير حياتي؛ فانتقلت من حياتي السعيدة معهما في باريس إلى عذابات المدارس الداخلية في لندن.

ورطني الحظ التعس في كفالة عمي هنري ماكدونالد، القس بكنيسة بلدة هويتنستابل WhitStable في مقاطعة كينت، وهي بلدة قريبة من مصب نهر التايمز، وكان رجلًا صارمًا يعتنق المذهب البيوريتاني، بينما كنت طفلًا صغيرًا ضعيفًا وحساسًا، ضعيف البنية، شديد الخجل، وزاد من فرط حساسيتي لثغةٌ في لساني؛ فذقت قسوة السخرية في طفولتي، ودعوت الله أن يحلل عقدة لساني، ولم يستجب دعائي؛ فاهتزت ثقتي في الدين بشكلٍ جزئي. 

حبسة لساني أورثتني انعزالًا عن الجميع، لم ألعب مع أترابي، وكانوا فضلًا عن المعلمين يسخرون مني، ما أكسبني طبيعة سوداوية، وميول لا يتقبلها المجتمع، وعواطف ساخطة على الدين وأهله، فضلًا عن دوافع خفية للتملص من ربقته. في سن 13، التحقت بمدرسة إعدادية في كانتبيري، وكانت ملحقة بمدرسة الملك، وحصرية لأبناء السادة الغطارفة. بعد إتمام دراستي، اعتلت رئتاي وخاف الأوصياء أن يكون ذلك نذير نهايتي بمرض السُّل مثلما قضت أمي؛ فأرسلوني إلى "هيبرز" بجنوب فرنسا؛ فاسترددت عافيتي وعدت بعد أشهرٍ قلائل إلى انكلترا.

كنت أمقت عمي، وبسببه كرهت الدين؛ فرفضت توجيهاته بالذهاب إلى أوكسفورد والانضمام إلى عالم القساوسة، وقررت السفر خارج انكلترا مدة عام، ووافق عمي أن أسافر لألمانيا، ولو كان يقرأ الغيب ما وافق مطلقًا. ذهبت إلى مدينة هيدلبيرغ، ولم ألتحق بجامعتها، واكتفيت بسماع محاضرات أساتذتها والتردد على مكتبتها، وشغلني الفن وقراءة الشعر وارتياد المسارح، واستمعت لخطب ومحاضرات مؤرخ الفلسفة المشهور كينو فيشر عن شوبنهاور، وقتها خلعت عن كاهلي رداء المسيحية، وانتقمت من الدين في شخص عمي، وانتقلت إلى عالم الإلحاد واللاأدرية.

عدت إلى انكلترا عاقد العزم أن أمتهن الكتابة، لكنني أدرك أن عمي سيقف في طريقي، وأنا الآن ابن التاسعة عشرة، ورفضت زوجة عمي أن أدخل سلك الخدمة المدنية، وكبُر عليها الأمر؛ لأنني سأخالط أناسًا ليسوا من السادة! كان أخي الأكبر يعمل بالقانون، وليتني أستطيع مثله - لولا حبسة لساني اللعينة - فلم أمضِ في سبيله. للتخلص من عمي قررت السفر، وبدا ذلك ممكنًا إن توصلت إلى حيلة مقبولة؛ فتذرعت بدراسة الطب، وافق على مضض، واشترط أن ألتحق بمستشفى سانت توماس؛ فالتحقت بمدرسة سانت توماس الطبية عام 1892.

لم أكن طالبًا مجدًا، وغلبت عليَّ الانعزالية، ولم أهتم بصداقة أقراني، واستثمرت أوقات فراغي في قراءة الأدب الانكليزي، والاطلاع على الآداب الأوروبية؛ فقرأت دريدان، سويفت، نيومان، ماثيوار نولد، فولتير، هيوم، ديكنز، موباسان. لاحقًا وصفت موم عمي بصراحة قاسية في رواية "العبودية الإنسانية"، وفي رواية "كحك وخمر". 

مات عمي سنة 1897، وتنفست الصُّعداء، وتهيأ لي ميراثٌ مناسب لطموحاتي المستقبلية، وفي العام نفسه نشرت أولى قصصي "ليزا من لامبث"، ورأيت نجاحها غير المتوقع؛ فعقدت العزم على احتراف الكتابة، ولا شيء غير الكتابة، ولم أمارس مهنة الطب بعد حصولي على الإجازة فيها، وندمت على ذلك لاحقًا، إذ إنها كانت ستضيف لرصيد تجاربي الحياتي، وهذا ما يلزم الأديب.

عبق البدايات

حصلت على إجازة ممارسة الطب سنة 1898، قبل تخرجي بعامٍ واحد ومن وحي اختبارات الدراسة، كتبت روايتي الأولى "ليزا من لامبث"، تنتمي إلى ما عرف لاحقًا بالواقعية، وأثارت عاصفة شديدة. صورت فيها حياة فتاة فقيرة من سكان حي لامبث، تقع في حب رجل متزوج، وتحمل منه سفاحًا وتخشى على نفسها من كلام الناس؛ فتسرع إلى الإجهاض، ظنًا منها أنه الحل الأمثل، لكنها تقضي نحبها خلال العملية.

شجعني نجاح قصتي الأولى، وحرك رغباتي الكامنة في تحقيق نجاحات أكبر؛ فكتبت قصصًا أخرى، ثم دخلت عالم المسرح. سافرت كثيرًا بحثًا عن مثيرات لخيالي المحدود؛ فزرت فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وأميركا، والصين، وبورما، والهند، والبحار الجنوبية، فضلًا عن معظم أقطار أوروبا، وكنت أدوِّن ملاحظات عديدة، أفدت منها في كتاباتي لاحقًا، وعدت منها بمواضيع قصصي. في هذا الإطار، ومن خلال صحيفتكم الموقرة، أنا أنصح الأدباء الشبان بالسفر والتطواف، ولن يندموا على مفارقة غرفهم أو بيوتهم، بل سيرون بيئات تثري مواهبهم وتحدوهم للإنتاج المتميز.

ولعل شابًا يصفني بالجنون الآن، ويقول من أين نسافر؟! ألم تسمع بجنون الأسعار؟ ألم يخبرك أحدهم بسعر كيلوغرام السكر وتذكرة المترو؟ ولهذا الشاب وأمثاله أقول إنني حاولت قبلًا أن أتبرع بجزءٍ من ثروتي لأمثالكم؛ لتطوفوا العالم كما حدث لي، وتتعلموا من هذا السفر الضروري للأديب والفنان، إيمانًا مني بأهمية السفر في شحذ الملكات وإثراء الخبرات، لكن رغبتي هذه اصطدمت بأطماع وريثتي الوحيدة، ودارت رحى الخلاف في المحاكم حتى وافاني أجلي، وسأحدثك عن ذلك عندما نتطرق لحياتي الشخصية.

إن لم تجد ما يعينك على السفر، فلا أقل من إدمان القراءة، وهي وصفة لا تكلفك كثيرًا؛ فقد قرأت أربعين مجلدًا عن الهندوكية قبل أن أكتب قصة تتناول اعتناق بعض الشباب الأميركي هذا المذهب.

طفت العالم في أول حياتي الأدبية، ثم طفتها أخرى بعدما خمد بركان إبداعي، وأمسكت عن كتابة القصص والأقصوصات والمسرحيات، وتمسَّكت بكتابة نتف نقدية؛ فلم يعد لديَّ ما أقول. صمت برهةً ثم نظر إليَّ بعينيه المخيفتين، وقال في غضب وبتلعثمٍ واضح نتيجة حبسة لسانه: "يا فلان! لقد كتبتَ مرةً أن يحيى حقي أول من أعلن اعتزال الكتابة؛ ألم تعلم أنني سبقته في ذلك، وسبقه كثيرون؟!"، فأجبته بما سكَّن ثائرته وقلت إنني حقًا كتبت ذلك، لكني قلت "في العالم العربي"، لم يعلِّق واكتفى بهزِّ رأسه بالموافقة.

عاد إلى مواصلة الحديث عن بداياته الأدبية، وعلمت أنه نشر عمله الأول في سن 23 سنة، وقال وهو يرفع يده اليمنى متعجبًا، تستقبل راحته السماء: إن أجري عن آخر كتبي 110 آلاف جنيه، بالقياس إلى 20 جنيهًا لا غير عن كتابي الأول "ليزا من لامبث". إن النجاح يستلزم تضحيات، لولا قبولي بالعشرين جنيهًا، ومواصلة طريقي ما بلغ أجري هذا الرقم الخيالي بالنسبة لوقتنا. 

في كتابه "الحساب الختامي"، الصادر سنة 1938، رويت تاريخ كتابتي قصة "ليزا من لامبث"، أي بعد أربعين سنة من نشر القصة، وهذا لأن العمل الأول يمثل قيمة كبيرة للأديب، لا سيَّما إذا نجح وترك بصمة عند الجمهور والنقاد، ولذلك لا تعجب إذا قلت لك إني رويت القصة ذاتها - أيضًا - في مقدمة الطبعة الشاملة، ومفادها أنني كنت طالبًا في مستشفى سانت توماس، في السنة الرابعة على ما أذكر، وكان على الطالب أن يحضر عشرين حالة ولادة - على الأقل - في ثلاثة أسابيع. 

كان الطالب منَّا يبيت في مسكن المستشفى، ويترك المفتاح مع البواب؛ فيصعد ويوقظه عند الحاجة، لينزل الطالب إلى قاعة الاستقبال، يجد زوج المرأة أو ابنها الصغير في انتظاره. في المرة الأولى، يصحبه الطبيب النوبتجي، ثم عليه أن يتصرف وحده في المرات المقبلة، ولا يستدعي الطبيب إلا عند الضرورة القصوى؛ فحضرت 63 حالة ولادة في ثلاثة أسابيع، ومنها استقيت مادة قصتي الأولى.

بعدما فرغ من استرجاع بداياته، قال موم وهو يحدق النظر: سأحدثك عن إنتاجي الأدبي، وكيف أكتب، وعلاقتي بالنقاد، وحياتي الشخصية، وحبسة لساني، وقصة انتظاري الموت، لكن اتركني الآن أرتاح قليلًا؛ فإنني لم أتحدث من زمن، والحديث يرهق لساني قبل بدني، وسأضرب لك موعدًا قريبًا لمواصلة الحديث. قال الجملة الأخيرة وهو يترك مقعده، وقد أعطاني ظهره وأسرع خطاه ليستأنف رقاده الطويل.