كيف تكتب مقالاً: درس من جوزف سماحة

كيف تكتب مقالاً: درس من جوزف سماحة

25 فبراير 2017
جوزيف سماحة (من أرشيفه)
+ الخط -

أن تتفق معه، أو تتواطأ، أو تختلف، لم يكن في ذلك أهميّة. كان المهم أن يكتب جوزف سماحة، وألا يفوتك ما يكتب. فهذا الذي لازمته المرارة من فجر الطفولة إلى عتمة القبر، عرف مع قليلين، كيف يصنع من مقالة حدثاً ممتعاً.
لو لم يكن كاتباً، لربما لم يتذكره أحد، وحين نسترجعه بعد غيابه المديد، المديد حقاً، فإنما نسترجع الكتابة كفعل وممارسة نبيلين ونسترجع معها الصفحات الناصعة التي وقّعها بالكبرياء الذي يليق بمعلمي الأجيال.
لقد ورث من المِحَن خجلاً لم يفارقه، وحناناً فاض عن زملائه وأصدقائه وعارفيه، وانكساراً في نظراته عجز عن النيل من قوام المتمرّد الكاتب فيه، ولا من حرفة البنّاء الذي أقام في الصحافة صرحاً لا يدانى. كان باذخاً في عطائه، لم يعبر في أيامه عابرٌ الّا وأثرى من معرفته وشهامته طابعاً منه في ضميره بصمة صعبة الامّحاء. كانت كرامته حصناً أقامه فوق الاعتبارات جميعاً. ومن المحزن، في غيابه اليوم، أن نرى من يتمسّح بجدرانه العالية من منافقين ومتكسّبين ومزوّرين وعديمي المواهب، ساعين لاكتساب مصداقية لم تقطن يوماً في إهابهم أو لتغليف الدناءة بكرامة لم تحظَ في ديارهم بأية حصانة.
مقاله الحدث كان قبلة المناصرين كما الخصوم ولكل منهم غرضه. من باحث عن حقيقة، إلى راغب في حجة يوظّفها في سجال. ومن طالب فكرة ليبني عليها موقفاً، إلى مسيء في الظنّ يسعى لصيد ثمين. لكن قبل كل ذلك، وفوق كل ذلك، يجدر التذكير بأنّ المقال فنّ أتقنه جوزف سماحة وتجلّى فيه، فكان أحد أعلامه البارزين في الصحافة العربية المعاصرة، جاعلاً منه، إلى جانب وظيفته الإعلامية، فسحة للإمتاع والمؤانسة. وهذا الإنجاز اليومي الذي صِيغ لأن يكون عابراً، فظل محتفظاً ببريقه مع انقضاء الأيام، هو مأثرته ومأثرة أمثاله ممن أسهموا، بالكتابة الجليلة، في وضع السياسة موضع الفعل الثقافي بامتياز. وهذا ما اعتدنا المرور عليه بدون بال، أو تجاهله أو تناسيه في حمى التسارع طلباً لحقيقة، لا يسعها أن تتبدى الا كاحتمال، ونريدها رغم ذلك مكتملة مصقولة واضحة الحدود والمعالم، جاهزة للاستهلاك. حين تكون علاقتنا بالقراءة لا تختلف عن علاقتنا بالمخازن لن نكون شركاء في إنتاج أي معنى تتطلّبه القراءة كممارسة فعالة بجهد عقلي وبأقصى درجات التلذّذ. ليس بمقدور الكتابة أن تنطوي على أية حقيقة. كل ما تفعله هو صياغة بنية متماسكة تشرع نوافذ وتؤشر إلى مسالك وتحثّ على سؤال.



القراءة الممتعة أعظم ما يمكن أن يقدمه كاتب لقارئ. وشرط إنتاج هذه المتعة يتطلّب من الكاتب لا أقلّ من التصفّح الواسع للتجربة الإنسانية الوفيرة في شتى الميادين، ومطاردتها عند التخوم. هي ثمرة النشاط الذهني الخلاق للذي يتقن فنّ عرض حصاده من المعارف، ويعرف كيف يدفع بالحجة إلى مداها، وكيف ينسق منظومة الأفكار وكيف يرتّب سياقاتها وينتقي لها من الصيغ أكثرها جدارة، مجدداً بذلك نشاط العقل، مرهفاً ذائقة القارئ، موسعاً له مدى الرؤية، محفّزه على التفكّر والكشف والنقد، ممكّنه الصيد في أعالي البحار.
يسهل الوقوع على أخطاء في حسابات سماحة وتوقعاته، وتسهل مناكفته لمن يسعى إليها، ولكن يصعب بالمقابل النيل من صدقه. مقتنعٌ بما يفعل، صادقٌ بما يقول، ولم يكن الصدق بحال من الأحوال بضامن للحقيقة. كان جوزيف يدرك جيداً صعوبة اكتمال أية حقيقة أو تعيينها بالدقة المشتهاة. ويوقن أن الخطأ في التقدير والتسرّع في الأحكام والنزعات الشخصية والمعلومة الناقصة، كلها أمور تجعل من عمل الصحافي تمريناً دائماً على مواجهة ما يتربّص بعمله من نقصان. كان جوزف بحسه النقدي وبمسؤوليته ككاتب يدرك ذلك إلى حد كبير.
اعتادت إدارة صحيفة «السفير» أن تنتخب لكل من كتّابها مجموعة من مقالاته السنوية وتنشرها في كتب، ما عدا جوزف سماحة. خرجتُ إليه مرة، وكنت على يقين بظنه، وسألته عن السبب، فكان جوابه أن ما يكتبه هو عمل يومي تنقضي وظيفته بصدور مقاله التالي، وأعمال كهذه لا تستحق تكريسها في كتب. لم يكن جوابه المداور إلّا تعبيراً مهذباً عن هذا المأزق، الذي ما برح الكثيرون يرونه نقيصةً وعجزاً وسوء تدبير، بينما هو لا يعدو أن يكون توأم العمل الصحافي وملازماً له.

أفصحت لجوزف في ذلك اللقاء عن رأيي المخالف. وأنه لو أعدنا تعريف الصدق والكذب في الكتابة والأدب لما أخذ النقد المعاصر، بالخفة نفسها، قول القدماء إن أجمل الشعر أكذبه. ذلك أن الكذب عندهم، لا يتعدّى عدم التطابق مع الواقع. ولا إبداع في هذا التطابق. ليست قيمة الكتابة في ما تتضمنه بقدر ما هي في ما تستطيعه. وما الكاتب القدير إلا الذي يفلح في صياغة نص قادر على السيولة والجريان.
كان غودار يقول إن الأفلام الحقيقية عنده، هي تلك التي تحتوي على شيء آخر غير مرئي، والذي يمكن رؤيته فقط لأن الجزء المرئي قد تم ترتيبه بطريقة محددة. أغلب الظن أن صناعة الكتابة لا تختلف عن ذلك في شيء.
قلت له أخيراً إن قراره لم يكن صائباً وإنه كان عليه أن يسمح بإعادة نشر ما يكتب، مساهمة منه في أن يضع أمام طلاب الصحافة والكتاب الشباب ما يستندون إليه ويستنيرون به. فشرعية المقال تكمن في صناعته. وضمانته الأخلاقية تقوم على صدقه لا على ما يسوقه من حقائق.
عندما كنّا نعمل في «اليوم السابع» نشر جوزف سماحة في عام 1984 مقالاً طويلاً تحت عنوان «دموع الطبيب الأبيض». لقي المقال صداه الواسع في وقت لم تكن فيه وسائل التواصل على ما هي عليه اليوم. وأذكر كيف كنا نستنسخه بالمئات ونوزعه على طالبيه ممن فاتهم. كان المقال درّة حقيقية. يكشف في كاتبه قامة عالية وموهبة لا نزاع عليها وطاقة استثنائية في السجال والمدى الواسع الذي بلغه ثقافةً وانخراطاً في الكفاح. عملٌ يستحيل بلوغه لو لم توظَّف فيه حياة بأكملها. لا مبالغة في القول إن هناك مقالات تبدأها قبل أن تكتبها بزمن طويل وتصرف فيها تجاربك كلها قبل أن تنهيها. تنتمي كتابات سماحة إلى هذا الصنف من الكتابة. وفي المقال المذكور برهان ساطع. لقد ساجل فيه العشرات من كتّاب الغرب ومفكريه ممن أدركتهم التوبة، وانكفؤوا عن مناصرة الشعوب في سعيها إلى الحرية والتقدم. بعد أن كانوا صوتها الأكثر صخباً.


لو كنت في زمن النقّاد العرب القدامى ممن يطوّب واحدُهم فلاناً أشعر الشعراء لأنه قائل هذا البيت، لقلت بلا تردّد إن جوزف سماحة أعظم كاتب مقال لأنه كتب «دموع الطبيب الأبيض».
يحق لك أن تسأل متى قرأ سماحة كل هؤلاء؟ وهو، للذي لا يعرفه، لم يصدر ديوان هامّ في الشعر ولم يقرأه، ولا رواية جديدة لم يعطها حقها، ولا فيلم سينمائي لامع لم يحضره، ولا عمل موسيقي جادّ لم يكن أول مستمعيه، ولا كتاب خطير في السياسة أو الفلسفة أو التاريخ لم يكن من أوائل مقتنيه. وفوق ذلك لم يكن يتأخّر عن لقاء حول نقاش عام، أو نشاط سياسي لنصرة قضية عادلة. كان مع ذلك عاضّاً الحياة بأسنانه. مقبلاً عليها بوله لا يوصف. لا سهرة صاخبة مع الأصدقاء والمحبين إلّا يكون نجمها المشتهى بلا منازع.
كنت في باريس جاراً له، وكان يصدف معظم الأحيان أن نستقلّ الباص معاً في الصباح الباكر متّجهين إلى العمل. كان يصعد الباص متأبطاً رزمة من الصحف الإنكليزية والفرنسية والعربية يبدأ بتصفحّها في مقعده. وما أن نأخذ أماكننا في المقهى أسفل المبنى حتى يبدأ القراءة. لا يخرج إلّا ويكون قد أجهز على ما فيها.
لا يدخل جوزف قاعة الاجتماع في العاشرة صباحا إلا ويكون تصوّره لجدول الأعمال قد أصبح جاهزاً، فيشرع بتوزيع المهام على الجميع.
جنى من الصحافة خبرة في كل ميدان منحته قدرة استثنائية على التجرّؤ والمغامرة والتدخل ومواكبة كل جديد. الذين عملوا إلى جانبه يتذكرون كيف كان باستطاعته أن يملي على العاملين في الأقسام جميعها من السياسة إلى الرياضة، ومن الثقافة إلى الاقتصاد مروراً بالمجتمع والمنوعات، برامجَ عمل وأفكاراً جديدة لشهور مقبلة.
طاقة وموهبة كبيرتان وضعهما تحت إمرة قيمه التي لم يتزحزح عنها رغم ما مر به من صعاب وواجه من تحديات. قيمٌ اختبر معانيها في حياته وفي حياة الآخرين. أراد أن يكون فاعلاً وعرف أن الفعل ساحتُه المتن والهوامش، الصدر والحواف، المشهد وما يختفي وراء المشهد، المباح والمسكوت عنه، المعروض والمستثنى. ولأجل ذلك كانت حياته جهداً متواصلاً للمعرفة والكشف. رمت التجارب على كتفيه وشاح التواضع فأحناهما حتى أمام الصغار.
لم يناكف ولم يبحث عن طريدة سهلة. يحترم في قارئه الإنسان الذي فيه والقيم المشتركة التي تجعله شريك درب في رحلة النمو والارتقاء والتحرر. يتوجه إلى عقله بالإقناع لا باستخراج بقايا عصبيّة مدفونة في الأعماق السحيقة من قرون ليوظفها، كما يفعل الكثيرون، حطباً في أفران الطغاة أو شحماً في الجنازير. ولم يكن لينحدر بقارئه إلى حضيض الشعبوية الخسيس ليزين له ما تلف من عدّة الكفاح.
تقلّب في اليسار ولم ينقلب عليه. كان من أبناء ذلك الجيل الباحث عما يسعفه في اقتراح المفاهيم الجديدة وهزّ التقاليد وإعادة تعريف القيم، فوجده متاحاً في الفكر اليساري، يوم كان لا يزال هذا الفكر خصباً وجذاباً ومعبراً ضرورياً إلى الحداثة.
كان نبيلاً. وفي كل ما كتب ومارس، شاهد على ترفّعه وسموّه. لم يسفّ في مساجلة أعتى خصومه. فما نام على حقد ولا صحا على ضغينة. كان مقاله في جانب منه محاولة تضميدٍ لجرح في الكرامة لم يطوه على أناه، بل رآه في جيله، وفي شقاء شعوب بأكملها. هكذا لم يكن دفاعه عن الفلسطينيين أو عن أهله في الجنوب اللبناني أو عن المساجين الأحرار في زنازين الاستبداد أكثر أو أقل من إحساسه الراسخ بقيم العدالة والحرية وضرورة وضع الكرامة الإنسانية على سوية الوجود.
ينهض مقال سماحة فوق الكتابة، وحيث يضع كل ثقله في الممارسة التي أصبحت ديدن حياته ومعناها، يفيض مقاله بالدلالات ويكتنز بالمعاني. ودرسه الأول والأخير: حين لا يكون للكاتب وزن وثقل فلن يخرج من بين يديه سوى الخواء.

■ ■ ■

هدّاراً جريت ولم تلتفت. ومثل كل الأنهار ارتوى بمائك الورد كما الشوك. وعلى ضفتيك شربت معاً الذئاب والنعاج وبنات آوى وطيور الحب. إنه قدر الأنهار وقدر الغابات وعلينا أن نرتضيه. ولكن يا جوزف، يا صديقي الأحبّ، ما صعب علينا القبول به أن يكون نهرك بين المنبع والمصب قصيراً.


دلالات