تنظيم المحتوى الإلكتروني في بريطانيا: خطط وعقبات

تنظيم المحتوى الإلكتروني في بريطانيا: خطط وعقبات

29 اغسطس 2019
مقرات الشركات خارج بريطانيا عائق أمام فرض قوانين (Getty)
+ الخط -
يتّجه منظم الإعلام في بريطانيا (أوفكوم) للحصول على صلاحيات تنظيم المحتوى الإلكتروني، استجابةً لقانون أوروبي يفرض على الدول الأعضاء في الاتحاد معاقبة شركات التواصل الاجتماعي التي تفشل في حماية المستهلكين من المحتوى الضار على الإنترنت. 
وترغب الحكومة البريطانية في أن يقوم "أوفكوم"، الذي يقوم بمراقبة السياسات الإذاعية في التلفزيون والراديو في بريطانيا، بتوسيع هذه السلطات لمراقبة المحتوى الإلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"يوتيوب"، بالإضافة إلى الخدمات التلفزيونية على الإنترنت، مثل "نتفليكس" وغيرها. ووفقاً للمقترحات الجديدة، والتي تم تمريرها نهاية الشهر الماضي، قبل توجه البرلمان البريطاني لعطلته الصيفية، يمتلك "أوفكوم" سلطة مؤقتة بفرض الغرامات على المواقع الإلكترونية التي تفشل في حماية مستخدميها من محتوى الإنترنت العنيف أو المتطرّف على سبيل المثال. كما تشمل الصلاحيات أيضاً حماية الأطفال من التعرض لمواد مسيئة، عبر التأكد من أعمار المتابعين.

وبينما يُعدّ التحرك البريطاني لإطلاق إدارة خدمات الوسائل المرئية والمسموعة استجابة لالتزامات لندن كعضو في الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ بريطانيا كانت قد باشرت مبادرة خاصة بها عندما أصدرت الورقة البيضاء الخاصة بالأذى على الإنترنت، والتي صدرت في إبريل/ نيسان الماضي للمطالبة بأن تتحمل شركات وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت مسؤولية حماية مستخدميها. وأتى ذلك تحديداً بعدما انتحرت الطفلة مولي راسل (14 عاماً)، بداية العام الحالي، "بعدما تابعت فيديوهات على إنستغرام حول الاكتئاب والانتحار". ويضاف إلى ذلك أيضاً مطالب رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي، بأن تقوم هذه الشركات بتنظيم عملها ذاتياً لمحاربة المحتوى المتطرف على الإنترنت، حيث تستخدم التنظيمات المتطرفة المنصات الإلكترونية لنشر دعايتها والتجنيد والتخطيط للأعمال الإرهابية.

وسيستطيع "أوفكوم" فرض غرامات على الكيانات المخالفة تصل قيمتها إلى 250 ألف جنيه إسترليني (الدولار يساوي 1.2 جنيه إسترليني) أو إلى مقدار معين قد يصل حجمه إلى 5 في المائة من عائدات الشركة. كما سيتمكن أيضاً من تعليق عمل عمالقة الإنترنت أو تحديد خدماتها داخل بريطانيا في حال فشلها في الالتزام بالمعايير الجديدة. وكانت لجنة التكنولوجيا الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة في الحكومة البريطانية قد أكدت على أن الصلاحيات التي سيتم منحها لأوفكوم ستكون على أساس مؤقت، رغم أنها قد تصبح دائمة في مرحلة لاحقة.

وكان الاتحاد الأوروبي قد أقرّ نهاية عام 2018 تعديلاً على القوانين التي تنظم عمل الإعلام في الدول الأعضاء، والتي تعود لعام 2010، لتتناسب مع التطورات التي شهدها الإنترنت منذ تلك الحين. وطلبت بروكسل من الدول الأعضاء الالتزام بالمعايير الجديدة لإدارة خدمات الوسائل المرئية والمسموعة في موعد أقصاه سبتمبر/ أيلول 2020. ووفقاً للتعديلات الأخيرة، تشمل إدارة الخدمات المذكورة المنصات التي تقوم بمشاركة التسجيلات المصورة، مثل "نتفليكس" و"يوتيوب" و"فيسبوك"، لتنطبق عليها بذلك المعايير المستخدمة في البث التلفزيوني والإذاعي.

كما يشمل التعديل أيضاً حماية الأطفال من خلال تحديد وصولهم إلى المحتوى الضار على الإنترنت. ويتطلب ذلك وجود آليات للإبلاغ عن مثل هذا المحتوى إضافة إلى التحقق من أعمار المتابعين وتوفير المراقبة الأبوية على ما يشاهده أطفالهم. كما تشمل التعديلات أيضاً حماية الأطفال من دعايات الأغذية الضارة بالصحة، مثل تلك الغنية بالدهون أو السكر. وتشمل الحماية أيضاً حماية الجمهور من المحتوى المحفز على العنف أو الكراهية أو التمييز ضد الأفراد، سواء وفقاً للعمر أو الجنس أو العرق أو الدين. كما تتعامل التعديلات الجديدة مع حماية بيانات المستخدمين حيث يمنع مزودو الخدمات على الإنترنت من جمع بيانات مستخدمي منصاتهم لأهداف تجارية مثل الإعلانات المخصصة.

وأطلقت الحكومة البريطانية في مايو/ أيار الماضي سلسلة من الجلسات الاستشارية مع الأطراف المعينة حول الطريقة الأفضل لتطبيق إدارة خدمات الوسائل المرئية والمسموعة. ويسمح الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء بالتوصل إلى الطريقة الأمثل لتطبيق قواعده. وستستغل بريطانيا هذه الفرصة للتعامل مع نتائج الورقة البيضاء للأذى على الإنترنت والتي تمتلك أهدافاً مشتركة مع الدوافع الأوروبية لمراقبة المحتوى الإلكتروني.

وتسعى الاستشارة التي تقوم بها الحكومة البريطانية حالياً، والتي تنتهي في 17 سبتمبر/ أيلول المقبل، إلى تحديد عدد من التعريفات الضرورية لتطبيق القواعد الجديدة، مثل تعريف المنصات المشاركة للتسجيلات المصورة (مثل يوتيوب) ونسخ هذه القواعد إلى القانون البريطاني، بالإضافة إلى تحديد أي منها يقع تحت سلطة القضاء البريطاني، نظراً للهوية المتعددة الجنسيات لمثل هذه المنصات. كما تدرس الاستشارة الجارية الصلاحيات الكاملة التي ستمنحها الحكومة لأوفكوم، مثل سلطات جمع البيانات بهدف القيام بمهامه الرقابية.

ولكن ومع اقتراب موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، تنتهي التزاماتها الأوروبية أيضاً. وكان اتفاق بريكست الذي وقعته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي مع قادة الاتحاد، ورفضه البرلمان البريطاني، قد حدد مرحلة انتقالية تتبع خروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية، وتلتزم فيها لندن بالمعايير الأوروبية كما هو الوضع الحالي، وتستمر حتى نهاية عام 2020.

وقرر البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء جرى عام 2016، لكن تم إرجاء الموعد مرتين بعدما عارض البرلمان الاتفاق حول شروط الانفصال الذي تم التوصل إليه بين بروكسل والحكومة البريطانية السابقة برئاسة تيريزا ماي.

إلا أنه ومع اتجاه حكومة بوريس جونسون إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، فإن بريطانيا لن تكون ملزمة بتطبيق إدارة خدمات الوسائل المرئية والمسموعة الأوروبية المعدلة (وفقاً لعام 2018) بل ستلغى أيضاً المعايير الأوروبية السابقة والتي تعود لعام 2010. ويترجم ذلك عملياً إلى أن جميع الخدمات التلفزيونية والإذاعية العاملة في أوروبا والتي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، ستفقد رخصها للعمل في الاتحاد الأوروبي، وستحتاج للحصول على رخص جديدة تثبت موافقتها للمعايير الأوروبية، أو أن تنتقل إلى إحدى دول الاتحاد. ورغم ذلك، لا يزال مستقبل بريكست غير مكتمل المعالم، ولا يمكن القول بتأكيد الخطوات البريطانية المستقبلية.

ولكن حتى ومع التزام بريطانيا بالقواعد الجديدة، أو بنسخة معدلة منها تتوافق مع بريطانيا ما بعد بريكست، يدرك "أوفكوم" حجم المصاعب التي ستواجهه في مراقبة عمل المنصات على الإنترنت. وتشمل هذه العقبات، وفقاً لتقرير أعده "أوفكوم"، حجم المواد التي سيتعامل معها. فعلى سبيل المثال يتم تحميل نحو 400 ساعة من التسجيلات على "يوتيوب" كل دقيقة، وهو ما يجعل من المستحيل إمكانية تطبيق القواعد المطبقة على المحطات التلفزيونية على "يوتيوب".



كما أن نوعية المواد الموجودة على الإنترنت تزيد من تعقيد المسألة، حيث إن محتوى الإنترنت أكثر تنوعاً من نظيره التلفزيوني. فالصور والتسجيلات المصورة والحوارات المكتوبة وغيرها من الأشكال الموجودة على الإنترنت تعقد من القدرة على تحديد المحتوى الضار. كما أن طبيعة التعامل مع حرية التعبير تختلف بين الجمهور أثناء التعامل مع نقاش شخصي على "فيسبوك" وبين النقاشات التي تنشرها جهات متخصصة. وهو ما يطرح أيضاً التساؤل حول جدوى مراقبة كامل المحتوى على الإنترنت، خصوصاً أن المحتوى الفردي، أي ما ينشره الأفراد، لا يتمتع بمستوى الانتشار الذي تحظى به المواد الإعلانية التي تنشرها الشركات التي تستفيد من الإعلان المستهدف الذي توفره منصات مثل "فيسبوك".

وأخيراً، تعدّ طبيعة هذه المنصات المتعددة الجنسيات معضلة أمام السلطات المحلية، مثل "أوفكوم"، على عملها. فالعديد من هذه المنصات يتخذ من دول أخرى مقراً له، وينشر محتوى تم رفعه من قبل مشتركين موجودين في دول أخرى، وبالاعتماد على خوادم موجودة خارج بريطانيا. ويشكل ذلك تحدياً أمام السلطات البريطانية في فرض قوانينها عليها.

المساهمون