Snowpiercer... أن تبني وطناً داخل قطار أبدي

Snowpiercer... أن تبني وطناً داخل قطار أبدي

02 أكتوبر 2020
ينقسم ركّاب القطار وفقاً لمعايير طبقية (نتفليكس)
+ الخط -

في الفيلم الشهير "تايتانيك"، للمخرج جيمس كاميرون، نستكشف في طياته شكلًا اجتماعيًا مبنيًا على التفاوت الطبقي. أرستقراطيون وبرجوازيون يقيمون في الطوابق العليا الفاخرة من الباخرة، بينما يحتل الفقراء الطابق السفلي؛ الجهة المعدمة والمنسية من الباخرة. وعند غرق الباخرة، يسعى المسؤولون عن عمليات الإنقاذ إلى إفساح المجال، آولًا، للنخبة من طبقة الأرستقراطيين قبل الفقراء لنقلهم إلى قوارب الإنقاذ.

عام 2009، صدر فيلم الخيال العلمي "2012". يطرح العمل فرضية نهاية العالم على يد الطبيعة الأم. وللنجاة من هذه الخاتمة المأساوية، اتفقت الدول العظمى مسبقًا على مشروع بناء بواخر إنقاذ عملاقة. تضم هذه البواخر شخصيات سياسية من الدرجة الأولى، وعلماء وفنيين وتقنيين ورجال أعمال ممن لهم الفضل في بناء ونجاح هذا المشروع، أما الشعوب فتترك خارجًا لتقابل مصيرها المحتوم بالموت. نستهل موضوعنا بهذين الفيلمين لتسليط الضوء على نقطة مشتركة تجمع بين هذين العملين تتعلق بالفوارق الطبقية، علمًا أنها لا تحسب عليهما كجزء أساسي يدخل في صلب الحكاية.

غير أن مسلسل Snowpiercer، أو "محطم الثلوج" الذي صدر قبل أشهر على شبكة "نتفليكس"، يجعل من هذه الفكرة أساساً درامياً تُبنى عليه مواضيع فكرية عميقة تستلهم فلسفات القرون الثلاثة الماضية حول شكل بناء المجتمعات والتطور الذي جعل من دول العالم تتخذ منه سياساتها الخاصة.

يقترح Snowpiercer أزمة أخلاقية ذات مضامين فلسفية وفكرية تاريخية، ضمن قالب خيالي. احتباس حراري أصاب الكرة الأرضية. حاول العلماء وضع حل من خلال اختراع مادة تعدّل من درجات الحرارة المرتفعة، لكن خطأً علميًا يعكس النتائج ويحيل الأرض إلى صقيع تام كالعصر الجليدي، يقضي على جميع أشكال الحياة. لكن شركة "ويلفورد"، الصناعية كانت متأهبة لهذه الكارثة؛ فعمدت إلى صنع قطار يعمل بمحرك أبدي يدور بشكل مستمر من دون توقف. خصص هذا القطار الذي يضم 1001 مقطورة للصفوة من شخصيات المجتمع، لكن احتجاجات دامية وقعت ساعة انطلاق القطار سمحت بدخول مجموعات مختلفة من البشر عنوة.

إذاً، يدعونا صناع العمل إلى تخيل واقع افتراضي محتّم، يرتبط بمصير البشرية وزوالها. كيف نبني وطنًا من جديد؟ وكيف يكون شكله؟ هذه الأسئلة الوجودية، تجيبنا عنها المعطيات المقترحة في السيناريو العام للعمل. لكل دولة نظام سياسي واجتماعي واقتصادي خاص بها، وتسير وفق قوانين الاقتراع والتشريع؛ فتشكل مجموعة النظم والقوانين هذه هيكل الوطن المتجانس، إلا أن اختلافات حقوقية قد تخترق هذه الهيكلية حين تفتقر جماعة ما إلى أدنى مقومات الحرية والعدالة، خاصة إذا كانت هذه الجماعة مهملة ومسحوقة، كما يحصل مع ركاب القطار المنفيين في مؤخرته.

فالنظام الداخلي الذي وضعه ويلفورد، لا يختلف بالشكل عن الأنظمة الكلاسيكية التي كانت سائدة منذ العصور الوسطى حتى منتصف القرن العشرين، حيث نجد التوزيع الطبقي التراتبي يفصل بين المقطورات. الفئة الأولى تضم الأرستقراطيين أصحاب الملك، ليهيمنوا على القطار وموارده، ثم تليها طبقة البرجوازيين، فالرأسماليين، ثم البلوريتاريين.

يتخلل هذا النظام تقسيم إداري وأمني متنوع، فنجد المواخير والمختبرات الطبية والأسواق الشعبية وأقساما خاصة بالموارد الزراعية والغذائية والتعليمية. هذا التقسيم الشامل والمتكامل، يصنع التوازن من وجهة نظر المهندسة ميلاني كافيل، كبيرة المسؤولين عن أمن القطار ونظامه التي نكتشف لاحقًا أنها هي من وضعت المخطط الهندسي والتنظيمي للقطار، وأن لا وجود لشخصية ويلفورد منذ توليها زمام الأمور لحظة انطلاق العربة. لكن هذا التوازن مجحف وقاسٍ من وجهة نظر أندريه لايتون الذي سيقود ثورة البلوريتاريين لوضع نظام مغاير يحاكي بشكلانيته الرؤية الماركسية تجاه النظام الرأسمالي من خلال تسلم العمال زمام الحكم والوصول إلى قمة المراتب السياسية بتمرد مسلح ثم العمل بعدها على تدمير أسس هذا النظام.

غير أن هذه الرؤية المتضمنة بوادر ليبرالية راديكالية ستقبل مسحة من الاشتراكية في سياق طوباوي في عملية إرساء الملكية الجماعية والتساوي في توزيع المنتجات عندما تسهم لاحقًا سلوكيات بعض الثوار الحانقين من خلال سوء وطيش استهلاكهم للموارد، في تبديد التطلعات الديمقراطية للايتون عند مواجهتها الفئات الأخرى الممتعضة من هذه التصرفات التي تناقض توجه الثورة ورسالتها.

في المقابل، لا يكتفي العمل بتمرير رسائله الثورية التي استوحت أيضًا موضوعها من البنية التنظيمية التي قامت عليها الثورة الفرنسية بعد توحيد النضال بين البرجوازيين وطبقة العمال في وجه الحكم الملكي، فثورة لايتون ساهم في نجاحها بعض الشخصيات من الطبقة الثانية، كضباط أمن وأطباء وشخصيات رفيعة تدير الأقسام الحيوية في القطار؛ إذ يذهب المخرج إلى قضايا التمييز العنصري، ولا سيما تلك المتعلقة بنضال الأفارقة الأميركيين ضد المتعصبين البيض، وذلك سبب اختياره لبطل من أصحاب البشرة السوداء، ولعل الحركة الاحتجاجية التي قادها لايتون لا تختلف عن تلك التي قادها مارتن لوثر كينغ الابن.

بل إن الأخير هو المقصود في رمزية الثورة المطلبية، فأعداد الضحايا والقتلى الذين سقطوا في المواجهات بين الطرفين المتقاتلين تجعل من لايتون في حالة ندم لرفضه أساليب العنف والقتل في سبيل إحقاق الحق والعدل، ما جعله يقع في جدال مع بعض الثوريين الرافضين لأسلوبه، وهذا ما حصل تمامًا مع مارتن لوثر كينغ الابن عام 1965.

لأفكار نيتشه حضور بارز أيضًا ضمن المسائل التي يطرحها المسلسل. نظريتا العود الأبدي والإنسان المتفوق، تتماهيان مع القصة وتلخصان تاريخًا من الصراعات والنزاعات البشرية الأزلية، وإن كانت تنتهي بانتزاع الأقوى أحقية الحكم والسلطة، إلا أنها تبقى غارقةً في دوامةٍ أبدية يستحيل الخروج منها، وهذا بالتحديد ما تظهره لنا رمزية القطار الذي يعمل بمحرك أبدي لا يتوقف أو يتعطل.

المساهمون