استمع إلى الملخص
- يعتمد الفيلم على التقطيع المتوازي بين الشخصيات، حيث تسعى الأم العازبة ريتا للبحث عن ابنها وسط الدمار، بينما يكتشف جورج ذاته في رحلته، مما يضفي أبعاداً نفسية وإنسانية على القصة.
- يقدم الفيلم تصوراً لإنكلترا متعددة الأعراق، متجاوزاً الصورة النمطية، ويثير تساؤلات حول العدالة الاجتماعية، مع أداء مميز لإيليوت هيفرنان في دور جورج.
لا يخشى المخرج البريطاني ستيف مكوين مواجهة الحقائق القاسية، سواء في تناوله قضايا العنف وانتهاك الكرامة الإنسانية كما في Hunger (2008)، أو موضوع الإدمان الجنسي والصراعات النفسية كما في (Shame (2011، أو في تعريته لوحشية العبودية كما في 12 Years a Slave الصادر في عام 2013.
في الآونة الأخيرة، انصب اهتمام مكوين على فترة الحرب العالمية الثانية، وهو ما تجلى في فيلمه الوثائقي Occupied City (2023) الذي تناول الغزو النازي لأمستردام. الآن، يعود مكوين بفيلم Blitz (2024)، ليستكشف مجدداً مصائر البشر وكفاحهم اليومي خلال واحدة من أكثر الفترات ظلاماً في تاريخ البشرية.
تأخذنا القصة إلى لندن، في الفترة ما بين عامي 1940 و1941، أثناء القصف الجوي الذي شنّته ألمانيا النازية. نستكشف الأحداث من منظور جورج (إليوت هيفرنان)، طفل في التاسعة من عمره، أُجبر على مواجهة واقع قاسٍ بعد أن سلّمته والدته ريتا (سيرشا رونان) لرعاية الحكومة البريطانية لإبعاده عن مخاطر الحرب. في ظل غياب الأب، لا يواجه جورج الانفصال العائلي فحسب، بل أيضاً ممارسات أقرانه العنصرية، كونه ابن امرأة بيضاء ورجل أسود. تنطلق رحلته الملحمية عندما يقرّر مغادرة القطار المخصص لنقله إلى أحد ملاجئ الأطفال، مدفوعاً برغبة يائسة في العودة إلى حضن والدته.
يبني مكوين فيلمه معتمداً على التقطيع المتوازي بين شخصياته، فيستعرض كفاح الأم العازبة المنتمية إلى الطبقة العاملة في سعيها المحموم إلى العثور على ابنها وسط المدينة المدمرة تحت وطأة القصف النازي. ويرسم رحلة الطفل التائه بين الأنقاض، الذي يفرّ من المخاطر ليجد نفسه في مواجهة أطياف متنوعة من البشر: قتلة، وقطاع طرق، وضباط شرطة قساة. مع ذلك، يتقاطع طريقه أيضاً مع أولئك الذين ما زالوا قادرين على الغناء والحلم.
رغم ذلك، يتجلّى تفاوت واضح بين الرحلتين؛ ففي حين تسلط رحلة الأم الضوء على معاناتها كامرأة من الطبقة العاملة، مجبرة على مواجهة تحديات الانفصال عن ابنها في ظل واقع المدينة القاتم، تظل هذه القصة في كثير من أجزائها مقيدة بنمط تقليدي. ورغم براعة السيناريو في تصوير صراعات ريتا الظاهرة، فإنه يتجنب التوغل في أعماق تعقيداتها النفسية وهواجسها الداخلية. كما أن قرارها التراجيدي بفراق ابنها لم يستغل بما يكفي للكشف عن ثقله العاطفي، وما ينطوي عليه من صراعات، ما جعل هذا الجانب أقل تأثيراً مما كان يمكن.
في المقابل، تنطلق رحلة جورج ضمن إطار أكثر تماسكاً وأعمق، إذ تسهم الشخصيات المحيطة به في إثراء القصة وإضفاء أبعاد نفسية وإنسانية، تعزّز طابعها كحكاية لاكتشاف الذات وإعادة تعريف الهوية. يبدأ جورج من حالة تشظٍ وتشتت، لكنه يكتشف ذاته تدريجياً بين أطلال إمبراطورية بريطانية فقدت مجدها، لكنها ما زالت تتشبث بماضٍ استعماري قائم على العبودية.
رغم وجود قدر من التلاعب العاطفي في السرد، فإن ما يميز الفيلم هو الثراء الاجتماعي الذي يبني به مكوين عالمه. جورج طفل أسود البشرة، وهذه قضية محورية لا تقتصر على الحبكة فقط ، بل تمتد إلى طريقة تنقله بين فضاءات اجتماعية متنوعة وتفاعله مع الشخصيات المختلفة التي يقابلها. يقدم الفيلم تصوّراً لإنكلترا متعددة الأعراق، متجاوزاً الصورة النمطية التي تهيمن على العديد من الأعمال التي تناولت الحرب العالمية الثانية. هذا التنوع العرقي يثير تساؤلات جوهرية حول العدالة الاجتماعية؛ من يحصل على الحماية، ومن يُمنح الفرصة للمطالبة بها.
يقدم الفيلم عالماً تمزّقه الحرب من منظور طفل في التاسعة من عمره. ورغم أن السرد يتضمن العديد من القفزات في الحبكة وتقديم شخصيات جديدة تظهر وتختفي بسرعة، ما قد يبدو في بعض الأحيان فوضوياً أو مربكاً، فإن هذه العشوائية تسهم في تقديم رؤية سردية أصيلة تعكس نظرة الطفل إلى العالم، وتجعلنا نعيش الفوضى والمغامرة والخطر كما يراها جورج. ومع أنّ الحبكة التي تستحضر روح "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، قد تبدو متوقعة في بعض الأحيان، فإن الأداء التمثيلي المقنع لإيليوت، في أول ظهور له، يعوض هذه الثغرات.
يتقن مكوين تصوير الحياة اليومية في لندن التي مزقتها الحرب، ناقلاً واقع الملاجئ المظلمة المكتظة بالأرواح المترقّبة، والشوارع التي تحمل آثار الدمار والموت في كل زاوية، وحتى الأحلام التي تتخذ طابعاً تنبؤياً، موحية بالموت الذي يحوم حول الشخصيات باستمرار. مكوين الذي كتب السيناريو، لا يصنع فيلماً عن أبطال خارقين أو بطولات تقليدية، بل يحكي عن أناس عاديين يعيشون في ظل ظروف قاسية فُرضت عليهم، مُظهراً ضعفهم وأخطاءهم، وحتى قسوتهم أحياناً. بذلك، يتجاوز مكوين السرديات البطولية النمطية، ليكشف عن طبيعة الإنسان بكل تناقضاتها؛ فيلمه لا يروي حكايات عن انتصارات خالصة، بل يسلط الضوء على الهشاشة البشرية في مواجهة الفوضى، إذ يمكن حتى للأبطال أن يجدوا أنفسهم في لحظات ضعفهم، يبكون وسط الأنقاض.