BAC Nord بين الحقيقة والمُتخيّل: تشويقٌ عاديّ واشتغال حِرفيّ

BAC Nord بين الحقيقة والمُتخيّل: تشويقٌ عاديّ واشتغال حِرفيّ

22 سبتمبر 2021
أديل إكزاركوبولس في "كانّ" 2021: عين تراقب خراباً (جون ماكدوغل/ فرانس برس)
+ الخط -

يُحرِّر سِدريك خيمينيز فيلمه الأخير (2021)، المعنون بـ BAC Nord، من ثقل الوقائع الحاصلة في الأحياء الشمالية للمدينة الفرنسية مارسيليا، بتوضيحٍ يعكس تنصّله من أي حكمٍ أو تواطؤ أو تبرئة أو تبييض يختصّ ببعض رجال "فرقة مكافحة الجريمة (BAC)". يقول التوضيح إنّ الفيلم مستوحى من قصّة حقيقية، لكنّه "يبقى فيلماً متخيّلاً". يُكمِل: "هدف الفيلم لا علاقة له بتقييم دعوى قضائية"، مُشدّداً على أنّ "الوقائع والشخصيات والكلام والآراء متخيّلة".

القصّة مُتداولة: عام 2012، يُتّهم 18 شرطياً في تلك الفرقة بتجارة المخدّرات وتبييض الأموال والربح غير المشروع. الفرقة تواجه أحياء غارقة في الفوضى والجريمة والعنف. مواجهات يفشل الأمن فيها. العصابات قوية، وذاك القطاع الجغرافي في المدينة عصيٌّ على إنهاء الحالة. أفراد في الفرقة يريدون خلاصاً. لكنْ، هناك قيود منبثقة من شأنٍ سياسي ومصالح مسؤولين، وبعض فساد وشحٍّ ماليّ. الفرقة تعاني كثيراً، والمسؤول الأبرز فيها، جيروم بودان (سيريل لوكونت في الفيلم)، يحاول التوفيق بين ضغوط القيادات العليا (السياسية والأمنية والاجتماعية) ومطالب عناصره.

التمكّن من إلقاء القبض على أكبر عصابةٍ، والعثور على كميات كبيرة من المخدرات والمال في حوزة أفرادها، انتصارٌ. لكنْ، للسياسة مصالح، والقيادات العليا تُضحّي بالجميع لحماية نفسها ومصالحها. أقسى التضحيات تلك، خيانة صديق، أو من يُظنّ أنّه صديق. هذا يُحدِث عطباً نفسياً، يُظهره سِدريك خيمينيز (المُشارك في كتابة السيناريو مع أودري ديوان وبنجامين شاربي) في الانهيار النفسي لغريغ سيرفا (جيل لولوش)، المُكلَّف من جيروم بتنفيذ تلك العملية الضخمة، قبل أنْ يُنكر تكليفه بها أمام المحكمة، عند انكشاف فعلٍ غير شرعيّ للثلاثي، المؤلّف من غريغ وأنطوان (فرنسوا سيفيل) وياسين الملقَّب بياسّ (كريم لوكْلو)، يتمثّل بالسطو على كمية مخدّرات لإعطائها إلى المُخبرة أمل (كنزا فورتاس)، التي تُقدّم معلومات عن تلك الأحياء وعصاباتها إلى أنطوان، وبفضلها يُلقى القبض على العصابة الأكبر.

من القصّة الحقيقية، يبقى جوهر الحدث، كما يوحي التقديم السابق للفيلم. الاشتغال السينمائيّ معقودٌ على التشويق والمطاردة والتوتر، المُصوّرة (لوران تانْجي) بحِرفية مهنية. أجواء الأحياء الشمالية في مارسيليا منقولة بحساسية سينمائية واقعية، والجانبان النفسيّ والروحي للشخصيات الأساسية مكتوبان بواقعية. الفيلم ـ المختار رسمياً خارج المسابقة في الدورة الـ 74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ مكتفٍ بمتابعة وقائع يومية للثلاثي، بعضها مرتبطٌ بحياةٍ شخصيةٍ لكلّ واحد منهم، مع تبيان مدى علاقة الصداقة بينهم. نورا (أديل إكزاركوبولس)، زوجة ياسّ، تعمل في قسم طوارئ الشرطة، وتواجه زملاء عمل يعرفون تفاصيل العملية، لمشاركتهم الثلاثيّ، بموافقة جيروم، عملية جمع المخدّرات للمُخبرة. لكنْ، لا أحد يجرؤ على قول ما يعرف، خوفاً من إلقاء القبض عليه بالتهمة نفسها، خصوصاً أنّهم يُدركون تماماً استحالة تغيير شيءٍ بناء على اعترافاتهم.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

أنطوان يُدخِّن القنَّب بين حينٍ وآخر، وبعض أدوات التدخين موجودة في بيته، ما يزيد الخناق عليه. "الشؤون الداخلية" تُحقِّق، لكنّ الثلاثي مُجمِعٌ على إنكار التهم، والقول إنّ جمع المخدّرات حاصلٌ بمعرفة جيروم وموافقته، لتنفيذ تلك العملية، التي تُعلي من شأن جيروم والقيادات العليا، مع أنّ المسؤول الأمني نفسه يقول لغريغ، ذات لحظة: "إنْ تُلقي القبض على تاجر مخدّرات كبير، أو على نشّال صغير، فالأمر سواء"، منهياً تعليقه هذا بتأنيبه: "هل تفهم الآن؟".

ضغوط يتعرّض لها الثلاثي، خصوصاً أنطوان، الوحيد الذي يتواصل مع المُخبرة، حتى اللحظة الأخيرة (تسليمها المتّفق عليه، وإنهاء العمل بينهما). كل واحد منهم مسجون في زنزانة فردية، وممنوع عليه الاختلاط بزميليه صديقيه، وممنوع عليهم جميعاً الاختلاط بالسجناء الآخرين، إذْ لا صديق لهم بين هؤلاء، بل أعداء كثيرون. أنطوان يرضخ أخيراً أمام غضب ياسّ، الذي يلتقي غريغ صدفةً، فيكتشف انهياره وخرابه، والحُطام المُقيم فيه. لا أحد يعرف مصير أمل بعد انكشاف هويتها، لكنّ أقوالها تتيح للثلاثي خروجاً من السجن، مع اتّهامات بسوء تنفيذ بعض الأعمال.

ياسّ يعمل حالياً في "نقابة الشرطة"، مُدافعاً عن زملائه في مواجهتهم قياداتهم؛ وأنطوان يُصبح ممرضاً في السجن، يهتمّ بسجنائه. أما غريغ، فيتخلّى عن عمله في الشرطة، ويلتحق بالبلدية موظّفاً فيها. تفسيرٌ كهذا يتنافى مع التشديد على أنّ شخصيات الفيلم "روائية متخيّلة"، رغم أنّ القصّة حقيقية. أو ربما يُراد بتحديد مصائر الثلاثي الإشارة إلى أنّ القصّة حقيقية، وشخصيات الفيلم حقيقية أيضاً؟

قصّة واقعية تُصبح فيلماً يعتمد على سيناريو متخيّل. لكنّ الفيلم (نتفليكس) متماسكٌ في بنائه الدرامي، من دون تقديم أي جديد، باستثناء استعادته حدثاً محلّياً، محوّلاً إياه إلى فيلم تشويق ومطاردات فقط، كاشفاً ـ في الوقت نفسه ـ بعض أحوال مدينةٍ تنوء تحت ثقل العنف المرافق لتجارة المخدرات، ومخاطر هذا كلّه على الجميع.

المساهمون