ADN لمايوين: مساحةٌ واسعةٌ للارتجال

ADN لمايوين: مساحةٌ واسعةٌ للارتجال

18 نوفمبر 2020
مايوين: المُطابق والمتخيّل في كلّ فيلم (Getty)
+ الخط -

 

لا تحبّ مايوين وصف "سيرة ذاتية"، بل تكرهه، كما تقول في ندوة. السيرة نسخة طبق الأصل عن حياةٍ، بينما في "آ. د. ن." (2020)، هناك ما هو مُطابقٌ وهناك ما هو مُتخيَّل، ليس كوصفة حلوى بمقادير مُحدَّدة مُسبقاً.

أفلام المخرجة والسيناريست والممثلة الفرنسية مايوين تعبيرٌ حرٌّ، فيه شذرات من سيرتها، لمن يعرف سيرتها. هذا مقبولٌ أكثر. لكنْ، في إعادة مُشاهدة "بوليسّ (Polisse)"، فيلمها السابق (2011)، بعد مُشاهدة "آ. د. ن."، يتّضح أكثر كَمْ من سيرتها مُتوفَّر في جديدها، وإنْ لم ترغب في إسباغ هذا الوصف عليه.

اختير ADN (الحمض النووي) رسمياً للدورة الـ73 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2020) لمهرجان "كانّ" السينمائي، الملغاة بسبب كورونا، لكنّه عُرض في صالات فرنسية أياماً عدّة قبل إغلاقها مجدّداً. النقد الفرنسي فاترٌ إزاءه، والجمهور بعض الشيء، رغم أنّ المعالجة مُبتكرة لفكرةٍ مُكرّرة. في الفيلم، أسئلة الهوية والانتماء والجذور، الراقدة في الأعماق، والمشتعلة جذوتها مع وفاة الجَدّ، والحِداد عليه. تبدأ رحلة بحث في طرق ملتوية ومرتبكة. في مشهد افتتاحي صاخب، رغم أنّه يحدث في دار المسنّين (ربما في هذا تكمن حلاوته)، تُحضِّر نيج (مايوين) مفاجأة لجدّها الجزائري أمير (عمر مروان)، المناضل الشيوعي السابق. ألبوم صُوَر تجمعه مع العائلة، المتحلّقة حوله أيضاً للاحتفال بعيد ميلاده. مناسبة كهذه، يلتقي فيها آباء وأولاد وأحفاد، أفضل ما يمكن لنبش خلافات وتناقضات وتحالفات وعداوات، ولغضب وحبّ وضحك ودموع.

هذا كلّه تقدّمه مايوين، البارعة في تجسيد مَشاهد جماعية صاخبة، كما يجب، لكنْ من دون إطالة وإرباك للمُشاهد، قبل إدراكه، في النهاية، "من هو هذا ومن هو ذاك"، مع هذا العدد كلّه من الناس.

المتاهة تطول لمَشاهد تالية. بعد أيامٍ، يرحل الجدّ، وتجد نيج، أكثر المتعلّقين به والمتأثّرين برحيله، ملجأ في تعاضد زوجها السابق (لوي غاريل) معها، الذي يضيف خفّةَ ظلٍّ وسخرية على مواقف الحِداد. هنا أيضاً تطويل وذاتيّة مزعجة قليلاً، فمايوين تستعيد في مَشاهد كتلك صدمتها في الواقع بعد وفاة جدّها الجزائري منذ ثلاثة أعوام. تبكي وتضحك وتتشاجر مع أمها (فاني آردان)، وتنعتها بكلّ تأثّر وخجل بأنها " تُقزّزها". تتحرّك الكاميرا بسرعة وطول الوقت بين وجوه غاضبة وضاحكة، ومُستنكرة وباكية، فالمشاعر تتغيّر بين حينٍ وآخر، والأسرة المحرومة من ركيزتها تنهار تحت وطأة العلاقات المعقّدة بين أفرادها.

موت الجدّ يثير أزمة هوية لدى نيج، التي تبدو أحياناً متفرّجةً ترصد ما يحدث، فتبقى خارج الإطار، وما في داخله يُرى بعينيها (نيج/ مايوين) فقط. الجميع موجودون بسبب علاقتهم بها. شخصيات تقترب وتبتعد بحسب نظرتها هي، من دون أنْ تتيح التعرّف عليها حقاً. كلّ شيء يتمّ بسرعة وبطء في آن واحد: سرعة المرور على الشخصيات، وبُطء المَشاهد لا يساهم في تطوير الفكرة.

في المشهد الأول مثلاً ضجيج وحركة يحولان دون إدراك مواقع الشخصيات وأدوارها. مشهد عرض جسد الجدّ في دار المُسنّين، بعد صعود روحه وقبل دفنه، وبين دخول أفراد العائلة لوداعه وخروجهم، طويلٌ، لم تبدُ فيه إلا انفعالات نيج وحفيد آخر. ثم مشهد اختيار الكفن والتابوت، وهذا خفَّف من حدّة الموقف رغم مأساويّته، مع تفاوت القرارات المطلوبة وخلافات حول الجنازة. مشهد واقعيّ تماماً، من أجمل مَشاهد الفيلم، بما حصل فيه من نقاشات عائلية، تدعو إلى الابتسام، وحتّى الضحك.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هذا أسلوب مايوين: توالي مَشاهد مأساوية مع هزلية. سيناريو مكتوب لا تتقيّد به، إذْ تترك مساحة واسعة لارتجال مواقف وأقوالٍ لشخصياتها، في لحظات شديدة الواقعية، تمتلئ بمشاعر إنسانية متناقضة. تجلب مايوين الشخصية إلى الممثل ليكيّفها، فهي ـ كما تقول ـ تعمل دائماً مع أناسٍ تحبّهم، لأنّها تحبّ تصوير الذين تحبّهم. هذا واضح في ADN، أي حبّها لشخصياتها ولمن يؤدّي الأدوار. أما نيج/ مايوين، فحضورها طاغٍ، كما في "بوليسّ". حضور مُدهش وساحر، بابتسامتها الخاصة التي تحمل تعابير شتى: راصدة وساخرة ومندهشة ومرتبكة. ورغم أنّها مركز الفيلم، على نحو مبالغ به أحياناً، فإنّ وجودها ـ بأداء صادق وعفوي مع صدق الشخصية ـ خفيفٌ ومُحبّب، ويسيطر على ما عداه، وينقذ الفيلم.

تُقرّر نيج/ مايوين العودة إلى جذورها الجزائرية، خلافاً لأمّها ولباقي أفراد العائلة. تذهب بعيداً، وتخضع لفحص الحمض النووي، كي تعرف نسبة الدم الجزائري فيها. تُشرِك المُشاهد في بحثها. تريد أنْ تكون جزائرية، وإنْ تكن نسبة أصولها الجزائرية قليلة. لكنّ درجة الانتماء التي يُشعَر بها لبلدٍ لا تحدّدها اختبارات الحمض النووي، ونسبة الـ"كروموزوم".

خلافاً لكثيرين، كما يُخبرها القنصل الجزائري في باريس بسخرية، تطلب نيج الجنسية الجزائرية. تبدو هوية شخصيتها شعوراً بالانتماء قبل كلّ شيء، رغبةً شخصية. هناك شخصٌ واحد يحبّبها بها: الجدّ. هو كافٍ لها، كحبّه وكونه سند العائلة ومحورها وسبب اجتماع أفرادها في حياته وبعد وفاته. يكفي هذا كي تشعر نيج برغبةٍ في الانتماء إلى هذا الشخص، وإلى ما يمثّله، وإنْ لا يشعر أفراد العائلة بانتماءٍ خاص إلى الجزائر. هي تفعل، بوجود أو بالأحرى بغياب أبٍ مكروه، يميني من أصول عدّة، ليست الجزائر بينها. إنّها فرنسية، لكنّها تريد الانتماء إلى الجزائر. في وداع جدّها، ترتدي ثوباً (ارتدته في "بوليسّ" بعد استيقاظها على صوت الآذان، في منزل صديقها في باريس)، وتضع حلى بربرية. جدّها الحقيقي (؟) حاضرٌ أيضاً في "بوليسّ"، في مشهد تعريف عائلتها إلى صديقها الجديد.

المشاهد في اختبارات نيج/ مايوين، وفي صراعاتٍ عائلية في أسرتها، يبقى ذاتياً ومتعلّقاً بها وبشخصيتها. تنجح في جعل مُشاهدها يُشاركها هاجس الفقدان والحِداد، ويتابع تساؤلاتها الشخصية وبحثها عن الهوية، لكنّها لا تتمكّن من تحويل قضيتها إلى قضيته هو، أو إلى قضية إنسانية عامة.

المساهمون