"200 متر" لأمين نايفة: سردية الوجع الفلسطيني باستفهامات سينمائية

"200 متر" لأمين نايفة: سردية الوجع الفلسطيني باستفهامات سينمائية

17 يناير 2021
علي سليمان في "لا موسترا 2020" لتقديم "200 متر" (ماريا موراتّي/ Getty)
+ الخط -

في فيلمه الروائي الطويل الأول، "200 متر"، ينسج المخرج الفلسطيني أمين نايفة حكايات من نبض الواقع الفلسطيني، بعيداً عن مشهدية الرصاص والقنابل، ومُعتمداً على قصص إنسانية نابعة من مشكلة جدار الفصل العنصري. فيه، يُقدِّم شخصية مصطفى (علي سليمان)، الذي يبعد عن عائلته 200 متر فقط، بسبب الجدار، ما يؤدّي به إلى الحصول على تصريح بالعبور في كلّ زيارة يقوم بها إليها.

يبدأ الفيلم بلقطة مقرّبة من وجه مصطفى، الذي تظهر عليه تعابير ألم، مرفقة بنظرة منكسرة إلى الأفق (الوطن)، تُجسّدها لقطة عامّة. كأنّ نايفة يطرح، منذ اللحظات الأولى، حواراً صامتاً بين مصطفى وعلاقته بـ"الوطن"، بلغة بصرية تشي بوجعٍ عميق، يجعله تسلسلاً يومياً لأحداثٍ يعانيها مصطفى بين آلام الظهر، والبحث عن عمل، والابتعاد عن زوجته وأولادهما الثلاثة. ينطلق الوجع من "أنا" أمين نايفة، كحكاية ذاتية واعتراف بنقل السينما لخبايا الواقع، وكشفها إياها أمام الكاميرا.

في حوار مع "العربي الجديد"، قال نايفة: "يُمكن القول إنّ وعيي تكوّن في سنوات الانتفاضة. أنا من مواليد عام 1988. مع بداية الانتفاضة الثانية، كنتُ في بداية مراهقتي. هكذا تبلور وعيي على الانتفاضة والجدار والاجتياح، خاصة الاجتياح الأميركي للعراق". أضاف: "عبر أحداثٍ كبيرة كهذه واكبتها في طفولتي ومراهقتي، طرحتُ أسئلة عدّة: لماذا لا يرى العالم ما يحدث في العالم العربي وفلسطين؟ نحن إلى اليوم شعوب مضّطهدة. هكذا راودتني فكرة أنْ أروي قصصاً. في الانتفاضة، مرّت فترات كثيرة من منع التجوّل، فكانت مشاهدة الأفلام ملجأ للهروب من المنع. السينما مفرّ للخروج من الأزمة التي كنا نعيشها، ووسيلة أروي بها حكايتنا للعالم". الحكاية التي اختارها أمين نايفة سردها عبر مصطفى، ربّ عائلة بعيدة عنه، ويفصله عنها جدار إسمنتي، ولا يزورها إلا بعد حصوله على تصريح. تنقل الكاميرا توتره وقلقه، خاصة بفضل حوار بينه وبين زوجته سلمى (لنا زريق)، التي تقول له: "أنتَ ترفض الحصول على الجنسية الإسرائيلية، التي تجعلنا نستقرّ جميعاً معاً"، فيجيبها: "لا أريد الجنسية". صديق له يمنحه عملاً في البناء في "إسرائيل"، فيخضع يومياً، كغيره من الفلسطينيين العاملين هناك، لإجراءات مشدّدة، قبل السماح لهم بالمرور في ممرّ ضيّق ذي قضبان حديدية.

السينما مفرّ للخروج من الأزمة التي كنا نعيشها، ووسيلة أروي بها حكايتنا للعالم

في الممرّ، لا يعرف المشاهد غير مصطفى، الذي تُبرزه الكاميرا في لقطة مقرّبة، ثم تبتعد إلى لقطة كبيرة وبطيئة، صُحبة أشخاص آخرين يعبرون معه، ولا يجمع بينهم غير الانتماء إلى فلسطين، وذهول أخرس إزاء ما يُمارَس عليهم يومياً. يحضر الصمت في هذا المشهد بقوّة، جاعلاً الصورة ناطقة أكثر، تستحضر الأسئلة كلّها عن حياة الفلسطينيّ التي تُتيح الكاميرا تأمّلها، والتي تُثير شعوراً بألم بسبب حياةٍ منزوعة بالأساليب كلّها: "الفيلم قائمٌ على مواقف من الحياة والوجع اليومي الذي يعيشه الفلسطينيون، وما يسرده الفيلم منبثقٌ من صميم الواقع"، يقول نايفة. ينتقل نايفة من الصمت والإجراءات المُشدّدة على المعبر إلى تصعيد الأحداث: يُطرد مصطفى من العمل، وفي الآن نفسه تتصل سلمى به لتخبره أنّ أحد أبنائه في المستشفى، بعد تعرّضه لإصابة في المدرسة، وعلى مصطفى أنّ يكون إلى جانبه. يلجأ الأب إلى فلسطينيين يعملون في التهريب، فتبدأ رحلة جديدة.

يغوص نايفة في الحياة اليومية للفلسطينيين، من خلال علاقة مصطفى بذاته وبالأسرة وبالآخر الفلسطيني، وبالمحتلّ أيضاً، كاشفاً عن قتلٍ آخر يُضاهي القتل المادي الملموس: القتل المعنوي، من خلال الحصار بأنواعه كلّها، وما يعيشه الفلسطيني من تشتّت بسبب الجدار. تشتّت يجمعه نايفة عبر أشخاصٍ يستقلّون سيارة مُهرّب لهدفٍ مشترك: تجاوز الجدار. أما أسباب تجاوزه فمحتلفة: حضور حفل زفاف، أو بحث عن عمل، أو زيارة عائلية. تختلف حكاياتهم، لكنّ المعاناة واحدة، تعكسها تعابير الوجوه، أو القطع المفاجئ للاستمرارية البصرية بصورة سوداء، كأنّها صرخة ضد الوضع والحزن.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في الرحلة هذه، تحضر التناقضات كلّها، من غناء ورقص ومشاحنات، تستمدّ حضورها "لخلق أجواء دراما في القصّة، بالإضافة إلى اعتبارها جسراً متيناً لإبراز واقع الفلسطينيين، وجعله أكثر حقيقةً ومباشرةً للمُشاهد"، بحسب نايفة. في هذه الرحلة، هناك امرأة أجنبية تحمل كاميرا لتوثِّق اللحظات كلّها كي تُنجز فيلماً وثائقياً. كأنّ المخرج يرغب في توثيق حكاية جديدة، ويضع مساراً آخر للأحداث.

يصل الجميع إلى الجدار، ويريدون تسلّقه، فيتعرّضون لهجومٍ من فلسطينيين يدّعون أنّ هذا الجانب من الجدار مُلكٌ لهم. وبلغة التلصّص البصري للكاميرا، تظهر عبارة مكتوبة على جدار مقابل: "فتح"، فتُفتح بذلك سلسلة لقطاتٍ من "النكسات البصرية" ربما، أو مجال لإعادة طرح الأسئلة. كأنّ أمين نايفة يُصرّ على وضع المُشاهد في مواجهة الكاميرا، بحثاً عن الخلل في العلاقات بين الفلسطينيين أنفسهم، الذين فرّقتهم السياسة، فيجعل صمت اللقطة ثرثرة لسؤالٍ عن واقع العلاقة بين حركتين فلسطينيّتين غير متفقتين، خاصة عندما يتمّ الصدام على ملكية جهةٍ من الجدار.

في النهاية، يصل مصطفى إلى المستشفى، ويلتقي ابنه وزوجته، ثم العودة إلى حيث يقطن. يتواصل مع أفراد عائلته هاتفياً، أو بحركة رمزية متمثّلة بإطفاء الضوء وإشعاله، فمنزله يبعد 200 متر عن منزل عائلته، لكنّ الجدار عمّق المسافة وضاعفها. في رمزية العتمة والنور، يتجلّى الكيان الفلسطيني الذي لا يحيا بين صوت القنابل والرصاص فقط، بل بين قضبان أخرى أيضاً.

المساهمون