11 سبتمبر 2001: ماضي نيويورك لا يزال حاضراً هنا والآن

21 فبراير 2025
هل يحق لنا إعادة تمثيل أنفاس الضحايا الأخيرة؟ (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأثير أحداث 11 سبتمبر على السرديات التاريخية والسينما: تظل هذه الأحداث نقطة محورية في التاريخ الحديث، حيث تتقاطع مع قضايا مثل الذكاء الاصطناعي والانتفاضات العربية، وتلعب السينما دورًا كبيرًا في تقديم رؤى مختلفة لهذه الأحداث.

- مقارنة بين رؤى وودهيد وبالد لأحداث 11 سبتمبر: وودهيد يقدم رؤية تقليدية تركز على صناع القرار، بينما يستخدم بالد الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء اللحظات المفقودة، مما يعكس اختلافًا بين جيلين في تناول الحدث.

- دور الذكاء الاصطناعي في إعادة سرد الأحداث: يبرز فيلم بالد استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل اللحظات الأخيرة للضحايا، مما يثير تساؤلات حول احتكار الولايات المتحدة لرواية الحدث ودور التقنية في تقديم روايات بديلة.

من البنتاغون والذكاء الاصطناعي، إلى الانتفاضات العربية، وصولاً إلى سقوط بشار الأسد، بعد ربع قرن من أحداث 11 سبتمبر /أيلول عام 2001، تتصادم هذه المصادفات لتخلق سردياتٍ تاريخيّة، وهذا اليوم (الحادي عشر من سبتمبر) هو ذروة هذه المصادفات مجتمعةً، وتكثيفاً بصرياً لها يقدّم لنا في صورة الانهيار للأبراج والدول والحكومات والمفاهيم والأخلاق والإنسانية.
منذ وصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم في سورية، أعيد نشر ونبش كل الكراسات والكتيبات الجهاديّة، ومعظمها بأسماءٍ وهمية. لكننا في عصرنا هذا، نستطيع إيجاد كل شيء على الإنترنت. بأثرٍ رجعي، نجد أن هذه الكتابات الكثيرة كانت تتناول قضية الحادي عشر من سبتمبر بالشراهة نفسها التي تناولتها فيها مراكز الإعلام العالميّة، كلٌّ من وجهة نظره، وما يتاح له من أدوات ومالٍ ونفوذ، والسينما ليست بعيدة عن هذه الأحداث، بل هي أقوى الأدوات، ولكنها الأكثر تكلفة.
أُنتج الفيلم الوثائقي 9/11: Day That Changed the World للمخرج البريطاني المخضرم ليزلي وودهيد في عام 2011، وأعيد بثّه هذه الأيام على منصات البث التدفقي لأسباب كثيرة. إلى جانب ذلك، صدر أخيراً الفيلم الوثائقي 9-11: The Day the World Stood Still للمخرج الأميركي الشاب فينلي بالد. الفيلمان يقدمان رؤيتين متباينتين للحدث نفسه؛ الأولى تعكس خبرةً سياسيةً عميقة، والثانية تستخدم الذكاء الاصطناعي لاختراق حدود السرد التقليدي، ما يعكس وجهة نظر جيلين مختلفين حول الحدث نفسه.
في فيلم وودهيد (مواليد 1937)، تُروى القصة من وجهة نظر صناع القرار؛ جورج بوش في مدرسة فلوريدا، ونائبه ديك تشيني في البيت الأبيض، ودونالد رامسفيلد في البنتاغون. اللقطات الأرشيفية تسرد تفاصيل 100 دقيقة غيرت وجه العالم. طائراتٌ عسكريةٌ عاجزة وموظفون حكوميون يركضون من دون معرفة الوجهة. صورٌ لا تنسى لقفز الضحايا من نوافذ الأبراج التي تحترق. وودهيد أخرج فيلماً آخر عن مطاردة بن لادن وعالجه بوصفه ملحمة سياسية، إذ تُدار الفوضى بالبروتوكولات البالية. كل شيء تقليدي في الفيلم، لكن مشهداً واحداً هرب للتاريخ، وهو حديث طيار طائرة الرئاسة الذي حلّق ببوش لساعاتٍ من دون هدف، وكأن الرمز الأقوى للسلطة تحوّل إلى شبحٍ هائم.
أما بالد الذي يبلغ من العمر 30 عاماً فقط، فيقدم رؤيةً تدمج المأساة بالتكنولوجيا، في مشاهدَ أُعيد بناؤها بالذكاء الاصطناعي. نرى وجوه الركاب داخل الطائرة الأولى قبل الاصطدام، مع أصواتٍ مُولَّدة آلياً تستند إلى رسائلهم النصية. هنا، يصبح الذكاء الاصطناعي شاهداً جديداً على التاريخ، بل راوياً. هل يحق لنا إعادة تمثيل أنفاس الضحايا الأخيرة؟ سؤالٌ يطرحه المخرج، وهو لا يوثق الكارثة هنا، بل يشكك في ذاكرتنا عنها. هذا ما حاول حسمه عبر إعادة بناء اللحظات المفقودة. تشكيل الحادثة بصرياً بتقنية Digital Overlay، تؤكد أن الماضي لا يزال حاضراً هنا والآن.
كونه صانع أفلام وثائقية تقليدية، يعتمد وودهيد على لقطات تلفزيونيّة كلاسيكيّة، فالدّقة التفصيلية والتحليل السياسي هما الأساس، ويتبع خطاً زمنياً صارماً، من الساعة الثامنة و46 دقيقة صباحاً، حتى منتصف ليل ذاك اليوم الاستثنائي. ولأن بالد، كما ذكرنا، يشكك في هذه الذاكرة، يقفز السرد في عمله بين الأزمنة مُشكّلاً سرداً غير خطي يعكس تشظي الذاكرة الجمعيّة، يبحث عن الجمال وسط الركام ويفكك الأرشيف بنفسه.
الأول له خبرة خمسة عقود في السينما، ويصور الإرهاب على أنه فشل استخباري. أما الثاني، ابن العصر الرقمي والتيك توك، فيراه نتاجاً للذكورة السامة والأيديولوجيات المشوهة. يُفضَح هذا التباين البصري في لقطات وودهيد عندما تظهر دموع أبطاله وهم يتذكرون الناس وهي تقفز من النوافذ، بينما لقطات بالد تُظهر وجوهاً مجهولةً تذوب في الدخان بتأثيرات ثلاثية الأبعاد، ولا يتعاطف مع صناع القرار كما يفعل وودهيد.
نرى في عمل بالد الدقائق الأخيرة داخل المصاعد المحترقة، مع أصواتٍ لضحايا لم يُعثر على جثثها، يعاد تركيبها عبر الذكاء الاصطناعي. التقنية هنا ليست بريئة بالطبع، فالبرنامج يُحلل نبرات الصوت ويولد حواراتٍ افتراضية بين الضحايا والمختطفين، والحدث يُعاد تمثيله بوعيٍ رقمي. يتحول السؤال هنا من أحقية احتكار الولايات المتحدة الأميركية لرواية هذا الحدث، إلى السؤال عن هوية من يملك الحق في إعادة كتابة الصرخات الأخيرة؛ البشر أم الذكاء الاصطناعي؟ يبدو أن بالد المتشائم حاول تقديم فيلم أشبه بجنازةٍ رسمية للحدث، وحاول بيأسٍ سحب هذا الاحتكار لرواية الحدث.

المشترك بينهما أن لا أحدَ يروي ما حدث للعالم من بعد هذه الأحداث، والأميركيون هم الضحايا الوحيدون الذين يستحقون التخليد. لهذا، علينا أن نتذكر أن كل لقطة سينمائية هي اختيارٌ أيديولوجيّ قبل أن تكون عملاً فنياً، وأن الالتفات إلى الذكاء الاصطناعي وهو يتحول إلى أداة للتحرّر من الروايات الأحادية، يمثّل سلاحاً جديداً في حروب الذاكرة. ينتهي فيلم بالد بصمتٍ مطبقٍ أثناء عرض أسماء الضحايا على شاشةٍ رقمية، ويظهر إعلانٌ لشركة ميتا عن تطبيق واقع افتراضي لزيارة الأبراج الافتراضية.

المساهمون