100 عامٍ لـ"المدرعة بوتمكين": اختراع فنّ المونتاج السينمائي

22 يناير 2025
"المدرعة بوتمكين": المونتاج جوهر السينما وعصب اللغة السينماتوغرافية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُعتبر فيلم "المدرّعة بوتمكين" للمخرج سيرغي أيزنشتاين تحفة سينمائية تعكس الفساد السياسي والاجتماعي في روسيا، وتُبرز أهمية المونتاج في السينما، مؤثراً بشكل كبير على السينما العالمية وخاصة الأمريكية.

- يُظهر الفيلم كيف يمكن لقطرة دم أن تُشعل ثورة، مُجسداً تمرد البحّارة عام 1905 ودور الجماهير في صنع التاريخ، رغم القيود البيروقراطية الشيوعية التي حدّت من حرية الإبداع الفني لاحقاً.

- بدأ أيزنشتاين مسيرته في المسرح قبل الانتقال للسينما، مُركزاً على المونتاج كأداة للتأثير، وأسس مع غريفيث وغانس قواعد المونتاج السينمائي، مما جعل أعماله مرجعاً أساسياً في دراسة السينما.

 

تمّ تشخيص موضع الفساد بوضوح: اللحم فاسد. قرار: يجب على البحّارة تناوله.

يكشف هذا الإكراه فساداً من مستوى آخر في روسيا، وفي كلّ بلد. يبني هذا الربط استعارة وأسلوباً تفسيرياً، بمعاينة البيانات على الشاشة عن علاقات الارتباط بين متغيرين أو أكثر. متغيّر بيولوجي في اللحم، وآخر سياسي في "المدرّعة بوتمكين" (1925) لسيرغي أيزنشتاين (1898 ـ 1948).

لإثبات الصدى العالمي للفيلم: عُرض لمدة عام في برلين. أثّر في السينما الأميركية، وعُرض 16 أسبوعاً في نيويورك (عن كتاب "البارجة بوتمكين"، تأليف Barthelemy Amengual)، ودُعي المخرج إلى لقاء شارلي شابلن ("قصة حياتي"، شارلي شابلن، ترجمة كميل داغر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994، ص 198 ـ 299).

رفض البحّارة الجياع تناول لحم الثور الفاسد. تُذكّر لقطة الثور بلوحة "الثور" (1655) للرسّام الهولندي رامبرانت، وفيها ثور مذبوح مُعلّق. فحص طبيب البحرية ذيل الثور المُتعفّن بنظّاراته: "لا مشكلة". لم يرَ الدود الذي يراه البحّارة بالعين المجرّدة. اندلعت ثورة فنية وسياسية صامتة بالأسود والأبيض، أثمرت تحفة السينما العالمية التي يمرّ قرن على إنجازها هذا العام (2025)، ولا تزال تحتلّ موقعاً راقياً في مُقرّرات معاهد تدريس السينما، فالفيلم يُعتبر الأكثر اقتباساً ومراجعة في مجال المونتاج، أي اللّحمة بين اللقطات. المونتاج جوهر السينما، وعصب اللغة السينماتوغرافية.

سياسياً، صَوّر أيزنشتاين تبعات قطرة دم صارت ثورة. شهيد القمع يُشعل ثورة. قتل المحرّض على التمرّد، ونُقل إلى مدينة أوديسا (البحر الأسود)، وعلى بطنه ورقة كُتب عليها: "من أجل ملعقة حساء". هكذا انتقل التمرّد من البحر إلى البرّ الروسي. جرى ذلك عام 1905، وحوّله أيزنشتاين، بطلبٍ من القيادة السوفييتية، إلى فيلمٍ، طَبع تاريخ السينما، وبَصم تاريخ التحريض السياسي معاً بواسطة الفنّ الملتزم. تكرّر مشهد قطرة الدم ثم التمرّد في القرنين الـ20 والـ21.

الفيلم تمجيدٌ لثورة الشعب، ورسالته: "أيها البحّار لا تُطلق النار على أخيك البحّار". ما العمل؟ الجواب: "أطلق النار على الجلّاد". هنا، صار الشعب البطل. بطولة جماعية هزمت القمع. بالنسبة إلى الفكر السياسي اليساري، الجماهير الشعبية تصنع التاريخ، وتحقّق الوعد بالعدالة. نجح أيزنشتاين في الدعاية السياسية التي تتجنّب الخطابة والمباشرة. بعدها، أصدر الضابط المُنظّر أندريه جدانوف، عام 1934، بيان الواقعية الاشتراكية، ففَقَد الفنان السينمائي السوفييتي حريته الإبداعية لصالح أيديولوجية الحزب. صارت الكاميرا بوقاً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

فنياً، بدأ أيزنشتاين بفنّ المسرح، لكنّه استنتج مبكراً أنّ المسرح لا يُمكنه تذويب الفن في الواقع، فانتقل إلى السينما. يُمكن عرض فيلمٍ في قطارات جوّالة في البلد دفعة واحدة. هنا، تتجاوز السينما المسرح الذي يقوم على عرض حي واحد، يشترط حضور الممثلين جسدياً. السينما وسيلة للتغيير بالنسبة إلى أيزنشتاين، الذي كان طليعياً يهتمّ بالشكل أيضاً، وعاصر الشكلانيين الروس في الأدب ("الشكلانيون الروس"، ترجمة إبراهيم الخطيب). هذه الطلائعية المستقبلية (avant-gardiste) جعلته يعطي قيمة كبيرة للهندسة الفنية للمونتاج، حتى إنّه يستحيل العثور على كتاب يتحدّث عن المونتاج ولا يبدأ يذكر مُنجز أيزنشتاين.

أيزنشتاين مخرج مثقّف ومؤلّف. كتب نصوصاً (3900 صفحة) بَيّن فيها أنّ العلاقة بين اللقطات أهم من اللقطات. لقطة زائد لقطة تساوي ثلاثاً تصنع مفاجأة. هكذا نظر إلى فنّه، قبل ظهور مخرجين يُصنّفون أنفسهم في سينما المؤلّف، من دون أنْ يؤلّفوا كتاباً أو رواية.

يعتبر أيزنشتاين أنّ الحبكة تتشكّل من مقاطع مستقلّة، تُنظَّم في مونتاج يضمن المفاجآت. مونتاج يهتمّ ليس بتقديم الأحداث بل بالتفكير فيها. عندما يحكي المخرج بالصُّوَر، لا يستنسخ الواقع، بل ينتقي ما يدعم وجهة نظره. يكسر البحّار الجائع بعنف رهيب الصحن الذي يستشهد بخبز المسيح. هنا، تحضر وجهة نظره كموقف ولمسة فنية في توالي اللقطات القصيرة العنيفة، لعكس غضب البحّارة. غضب سياسي يجسّده تتابع أفعال، يوفّر استمرارية للّقطات المتتابعة. النتيجة: الترابط والتناسق الرشيق يخلقان الإيقاع الذي يؤثّر في المُشاهد.

المونتاج إعادة تركيب (synthèse) ما جرى تقطيعه (decoupage). لا يجري تصوير لقطات الفيلم بالترتيب نفسه الذي تُعرض به. تُصوَّر اللقطات تبعاً للأمكنة، ولاحقاً يُركّبها المونتير ويوضّبها ويجمعها، لتظهر في متوالية سردية دالّة.

ما منطق التركيب؟ من وضع أسس المونتاج؟ إنّهم ثلاثة: الأميركي دي. دبليو غريفيث، مخرج "مولد أمة" (1915)، والروسي أيزنشتاين، والفرنسي أبل غانس، مخرج "نابليون" (1927). ما الذي يجمع هذه الأفلام؟ كلّها سياسية. المونتاج فلسفة وسياسة لخلق وحدة سردية درامية بالصُّوَر، كما في مشهد سلالم أوديسا. تلحمُ السياسة الأفراد، ويلحمُ المونتاج اللقطات.

السينما وسيلة للتغيير بالنسبة إلى أيزنشتاين. لكنّه لم يكن مع الفنّ التحريضي المباشر. عندما سيطرت البيروقراطية الحزبية الشيوعية على السينما في موسكو، انتقل إلى التدريس. هذا يُفسّر كون بداياته أقوى فنياً. منذ ذلك الحين، تدهورت السينما السوفييتية، ولاحقاً تدهور النظام السوفييتي. هذا التقطه فيلمٌ يليق بالتاريخ الدموي لروسيا.

المساهمون