استمع إلى الملخص
- يتفاعل منير مع السيدة فاليسكا وابنها كارل، حيث تقدم له فاليسكا دعماً غير مباشر، ويعرض الفيلم "يونان" هذه التفاعلات بتصوير هادئ يعكس التناقضات الداخلية للشخصيات.
- يربط الفيلم بين منير وعدنان من فيلم "الغريب"، حيث يعكس كلاهما الغربة والضياع، ويستخدم الغموض البصري والتلميحات الرمزية لخلق تجربة سينمائية عميقة تثير تساؤلات حول الخلاص والانبعاث.
ضيق تنفّس يؤلم منير (جورج خبّاز)، الكاتب الفاقد كلّ قدرة على الكتابة، لكنّ الفحوص الطبية تؤكّد سلامته الصحية. نصيحة الطبيب: تمضية وقتٍ في مكان منعزل، بعيداً عن ضجيج الحياة اليومية، فيختار بلدة ريفية نائية، ناسها يتحدّثون اللغة الألمانية، كمنير/خبّاز نفسه، الذي يتواصل مع شقيقته ووالدته غير الظاهرتين بالمحكية اللبنانية. يصل إلى منزل عتيق فيها، يُمكن استئجار إحدى غرفه لإقامة مؤقّتة. السيدة فالِسْكا (هانا شيغولا)، مالكة المنزل، تُصرّ على ضرورة الحجز المسبق، قبل أنْ ترضخ لإلحاحه المليء بتعبٍ وقهرٍ وحزنٍ، فتبدأ رحلةٌ تكشف له مسائل، وتُعرِّفه إلى أناسٍ، وتُخضعه لتجارب، وتدفعه إلى مواجهاتٍ شتّى، مع الذات والآخر، كما مع الماضي والراهن والموت والفقدان والخيال والواقع.
في أيامٍ عدّة، يتبادل منير كلاماً قليلاً مع فالِسْكا، لكنّه ينفرد كثيراً مع ذاته في المساحات الشاسعة لطبيعةٍ خلاّبة، رغم تقلّبات الطقس من مناخ مُشمس إلى عاصف يكاد يُطيح كلّ شيء. الكلام القليل هذا، العاديّ والبسيط أساساً، يترافق وسلوكٍ جذّاب لامرأةٍ عجوز، تمتلك من الدنيا ما يصنع سكينةً لها في تلك البلدة، وما يُفيد منير، بنظرةٍ أو تعليق أو ابتسامة أو حركة. أمّا ابنها كارل (توم فِلاشِها)، فناقم وغاضب لكنْ بصمت، وأصدقاء له يحتسون الخمرة معاً، ويُغنّون، ويمارسون لعبة عنيفة، قبل إدراكه (كارل) أنّ خللاً ما يعتمل في ذات منير وروحه، فيُحاول بمواربة شفّافة وصادقة اقتراباً منه، ولو متأخّراً.
هذا كلّه، وغيره الأجمل والأعمق، مرويّ في "يونان" لأمير فخر الدين (إخراجاً وتأليفاً)، المُشارك في مسابقة الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". سرده محصّن بتصوير (رولان بلانت) غير مُكتفٍ بحِرفية ابتكار لغةٍ تُضيف إلى النصّ ما لا يقوله: حركة كاميرا هادئة للغاية، تكشف بشكلٍ مُبطّن ما يعتمل في ذات وروح، وما تعنيه الطبيعة، بتناقضات مناخها، من انعكاسٍ لهاتين الذات والروح. بعض ألوانٍ تُكمِل ما يُفترض به ألا يكون واقعياً (حكاية أشبه بأسطورة، وتداخل بين وقائعها ووناسها بوقائع عالم منير وناسه وسيرته ـ حياته)، بالإيهام أساساً، وهذا بديع، مع أنّ في كلامٍ متأخّر تفسيراً غير لائق بسحر أجواء وتفاصيل ومسالك، وبخراب ذات وروح أيضاً، يُقدّمه جورج خبّاز بأداء مليء بصدق وحِرفية، فالتعبير غير محصور بكلماتٍ تُقال فقط، لأنّ الكلام قليلٌ أصلاً، وهذا يُعينه على "استغلال" ما لديه من أدوات اشتغال، فالأهمّ كامنٌ في جعل الشخصية السينمائية حيّة وواقعية، وإنْ بصرف النظر قليلاً عمّا يبغيه المخرج ـ المؤلّف، أو إلى جانب ما يبغيه، أو ترجمة لما يبغيه، مع حيّز حرّ للممثل ليختبر طاقته مُجدّداً، وليخطو خطوة أو أكثر في تفعيل بهاء الأداء وصدقه.
هذا غير حاجبٍ أداء هانا شيغولا، التي ـ ببساطةٍ وعفوية وهدوء طاغٍ وجميل، وبشيخوخة (25 ديسمبر/كانون الأول 1943) تُضفي على الأداء عفوية عميقة في قولٍ وتصرّف ونظرة ـ تذهب عبر فالِسْكا إلى داخل منير بسلاسة، مرتكزةً على ما في شيخوختها (امرأة، أم، أرملة) من اشتغالات مديدة، تمنحها حنكةً في تعرية الفرد أمامها، إنْ يكن الفرد ابناً لها أو زائراً "غريباً".
أيكون هذا الغريب (منير) امتداداً لغريبٍ سابق يُدعى عدنان (أشرف برهوم)، في "الغريب" (2021)، أول ثلاثية، ثانيها "يونان"، وثالثها غير معلومٍ إلى الآن، رغم أنّ فخر الدين يُحدِّد عنواناً عامّاً له: إنّه عن امرأة، فالمرأة بالنسبة إليه أملٌ وقدرة على التحمّل والشجاعة؟ يقول: "الأول غريبٌ بين أهله وناسه. الثاني (منير) سيكون غريباً بين غرباء"، وهو في الوقت نفسه "غير قادرٍ على العودة من المنفى ـ المهجر، بينما عدنان باقٍ في مكانه" (العربي الجديد، 16 مايو/أيار 2022).
يصعب التغاضي كلّياً عن الشخصيتين/الفيلمين. الغربة موحشة، إنْ تكن بين غرباء، وهذا يُترجمه جورج خبّاز بحِرفية أداء تمتلك جاذبية المُشاهدة والمرافقة والإحساس. لكنّ الموحشَ أكثر غربةُ فردٍ بين أهله وناسه وفي بيئته، وهذا يتطلّب أداءً أقسى وأعمق، يصنعه أشرف برهوم بكلّ ما فيه من انفعال وتفكير وتأمّل ومهنيّة ومصداقية.
لا مقارنة بين أداءي أشرف برهوم وجورج خبّاز، بل محاولة لتبيان شيءٍ من أدوات اشتغالهما. فالشخصيتان، عدنان ومنير، غارقتان في بؤسٍ وانكسار وتمزّق وقهر وخيبة وضياع، وماثلتان أمام ما يُشبه "محكمة ذات وروح" (مع أنّ خارج ذاتٍ وروح أقسى في التعامل معهما)، تريد (المحكمة) أنْ يكتشف كلّ واحدٍ منهما ما يغفل عنه، أو ما يسبقه، أو ما يتنصّل منه، أو ربما ما يرغب فيه وإنْ من دون إعلانه. والأداء، إذْ ينبثق من اختبارات وتراكمات معرفية ومهنية وحِرفية، يعكس جوّانيات كلّ شخصية وتفاصيلها، بتعابير لا مكان فيها لأي كلامٍ غالباً، مع أنّ بعض الكلام حاضرٌ، وبعضه الآخر مطلوب، ومع هذا يترفّع أمير فخر الدين عنه كثيراً، لانهماكه في التقاط النبض، بتناقضاته، في أعماق كلّ شخصية منهما، عبر صُور وملامح.
تفسير الحاصل بين منير ووالدته (نضال الأشقر. ما سبب نُطق شخصيتها بحرف القاف، المعروف عند أبناء الطائفة الدرزية وبناتها، مع أنّ نبرتها غير منتمية إلى البيئة الاجتماعية الدرزية؟ علماً أنّها غير ناطقة بهذا الحرف في كلمات أخرى)، شبه الغائبة عن الصورة رغم أنّ صوتها حاضرٌ، صادمٌ (سلبياً)، فالمتخيَّل أجمل، والمعلَّق أفضل، وغير المفهوم مباشرة أقدر على تأمّل أعمق في المُشَاهَدِ، خاصة أنّ مواربات عدّة تساهم في غموضٍ بصريّ مُحبَّب (يُفترض بغموضٍ كهذا ألا يبقى غامضاً بالنسبة إلى منصرفٍ بكلّيته إلى المُشَاهدة)، في نصّ كهذا النصّ السينمائي الذي يبدأ ببيت شعر للمتنبي: "أغالبُ فيك الشوق والشوقُ أغلبُ/ وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجب"، وينتهي بقصيدة تستعيد حكاية الراعي الذي لا يملك شيئاً إلا امرأته الجميلة وقطيعاً من الغنم (لا أذنان له ولا أنف ولا فم، كأنّه تمثيلٌ لأسطورة القرود الثلاثة، أو امتدادٌ لحكايات مستلّة من الراعي وامرأته الجميلة).
تفسيرٌ كهذا يُقال بكلمة. لكنْ، رغم ثقله السلبي غير المقبول، لن يحول دون إكمال النص السينمائي إلى خاتمةٍ، يُفترض بها أنْ تكون خلاصة مطهر. أمّا يونان، الاسم (النبي يونان) وعنوان الفيلم، فيحتمل معانيَ ورموزاً تنفلش أمام الكاميرا تدريجياً، وتظهر ببطءٍ غير نافرٍ، ويُلمَّح إلى جوانب من شخصيته عبر أقوال مباشرة إلى منير، التائه في ذاته وروحه، كأنْ لا خلاص ولا انبعاث (أصحيحٌ أنْ لا خلاص ولا انبعاث؟).