"يا للآلهة" للويز كورفوازييه: أحاسيس رقيقة في الريف الفرنسي

10 فبراير 2025
"يا للآلهة": أداء عفوي لتقارب أخويّ (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "يا للآلهة" للمخرجة لويز كورفوازييه هو عمل سينمائي فرنسي محلي، تم تصويره في قرية فرنسية بمشاركة سكانها، ويتميز بأسلوب إخراجي بسيط وواقعي، حاز على جوائز مهمة مثل جائزة أفضل عمل أول في "أضواء الصحافة الدولية".
- يركز الفيلم على حياة الشباب في الأقاليم المهمشة، حيث يعرض قصة أنتوني "توتون" الذي يتحمل مسؤوليات جديدة بعد وفاة والده، مما يعكس التحولات الإنسانية في علاقته مع أخته.
- يتميز الفيلم بتقديم صورة واقعية للمجتمع الريفي باستخدام الضوء الطبيعي، وأداء عفوي من الممثلين، ليصبح "يا للآلهة" جوهرة سينمائية مليئة بالأحاسيس الرقيقة.

 

الفيلم "صغير"، كما يُسمّى هذا النوع في فرنسا. صُوِّر في قرية فرنسية مع ناسها. لا نجوم كباراً أو صغاراً. ميزانية متواضعة، شديد المحلية. أسلوب إخراجي بسيط وواقعي، يسرد طريقة حياة وتفكير. هذا لم يمنع مراسلي الصحف الأجنبية بباريس من اختياره أفضل عمل أول، ومنح بطله الشاب كْلِمان فافو جائزة أفضل ممثل صاعد، في النسخة الـ30 (20 يناير/كانون الثاني 2025) لـ"أضواء الصحافة الدولية (Lumieres De La Presse Internationale)". لم تكن هاتان الجائزتان الأوليين لفيلمٍ، لم يتوقّع أصحابه وأهل القرية خروجه من قريتهم، لكنه خرج. ففي الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، فاز بجائزة الشباب في "نظرة ما".

"يا للآلهة"، أو "عشرون إلهاً" (2024)، للويز كورفوازييه، شتيمة فلاحية في فرنسا (بحسب العنوان) للتذمّر والاحتجاج، تتلاعب بالألفاظ، ويُقصد بها عبث أو هراء الآلهة. لكن، درجت العادة على استبدال الكلمة الأولى، كتابةً، برقم 20 (تُلفظان بالطريقة نفسها)، كي لا يُتَّهم مُطلقها بالكفر. الفيلم عائلي، فجميع أفراد عائلة المخرجة، في منطقة "جورا" (شرقي فرنسا)، عملوا فيه. إنّه يتغذّى من حبّ الأرض والعمل الزراعي، في قرية يتجاذب أهلها تهميشاً ومللاً ومشاجرات، وشيئاً من متعة.

باهتمامه بفئة عمرية شابة، يسرد "يا للآلهة" نمط حياة في بقعة جغرافية محدّدة في الريف الفرنسي، يمكنها أن تكون في أيّ مكان آخر. ففي الأقاليم المُهمّشة، هناك شباب وحماقاتهم وخشونتهم، لكنْ أيضاً حيويتهم وحنّيتهم وتضامنهم وطاقاتهم المهدورة، إلى مسؤولياتهم ولامبالاتهم وأوقاتهم الضائعة في أمكنةٍ زراعية كهذه، بعيدة عن حياة المدن الكبرى. الجميع يسعون، بطريقة ما، إلى العيش في ظروف عمل شاقّة وقاسية، تحكمها قيود إدارية. يفشلون أو ينجحون، وربما تخونهم الحماسة، لكنّ الرغبة في الحياة والتمتّع بها والنجاة تقودهم إلى تكرار المحاولة.

تعطي كورفوازييه فكرةً عمّا يجري في هذه المجتمعات، وتُصوّر بحبّ واحترام عالماً تعرفه جيداً. بين عمل مستمرّ في الاعتناء بالمواشي والأرض، فُسحٌ للتسلية والبهجة في الاحتفالات المسائية في القرية نهاية كلّ أسبوع. على إيقاع دورة حياة مُتكرّرة، يقضي أنتوني (18 عاماً)، المعروف بـ"توتون" (أداء رائع لفافو)، معظم وقته في احتساء البيرة، والتجوّل في قاعات الرقص في المنطقة مع رفاقه المتسكّعين. لكنّ الواقع يلاحقه، وتتغيّر حياته بين ليلة وأخرى، حين يتعيّن عليه رعاية أخته الصغيرة (سبعة أعوام)، وإيجاد طريقة لكسب لقمة العيش بعد فقدان الأبّ.

بعد مساعٍ فاشلة للعمل لدى آخرين، يختار صُنعَ أفضل جبنة "كونتيه" في المنطقة أملاً بالفوز بالميدالية الذهبية في المسابقة الزراعية و30 ألف يورو. وُضِع أمام مسؤولياته باكراً. وبعد تأفّفه من أخته الصغيرة، والضيق بوجودها، بات عليه تدبير شؤونها.

تُمثّل الشخصيات الواقعَ بامتياز، في هذه المناطق الفرنسية، بشكلها وملابسها وأجوائها وسلوكها. قدّمتها كورفوازييه بحبّ وتعاطف كثيرين، من دون أن يؤثّر ذلك على نظرتها الواقعية. لم تُحمّل توتون عبء تغيير سحري بسبب المسؤوليات الجديدة، فبدت تحوّلات الشاب واقعية، ولم ينقلب إلى النقيض بسبب هذا الطارئ الشاق نفسياً وعملياً. فالحياة السابقة لا تزال هنا، ومرحلة الانتقال إلى سنّ الرشد والمسؤوليات لا تزال تسودها رغبات الشباب في العبث وارتكاب الحماقات والصراع بين الرفاق، والشِجار والمعارك. غير أنّ الواقع يُجبر على تحوّل تدريجي، مع التنبّه إلى عمر الشاب الصغير وشخصيته، وتأثير محيطه، والمستجدات الحاصلة بدءاً من موت الأبّ، واكتشاف الحبّ.

 

 

تحوّل لم يكن اجتماعياً بل إنسانياً، ويبدو أولاً في العلاقة بين الأخ والأخت في مشاهد تُظهر شعوره المتزايد بالمسؤولية، بل اكتشاف هذا الشعور الجديد، ومعه شعور الألفة والسرور بوجودها، وفي سعيه إلى إيجاد عمل للتكفّل بها من دون أن يتذمّر، كما كان يفعل. علاقة تتطوّر تدريجياً. إنّها من أرقّ ما يُمكن تقديمه، يتبادل فيها الاثنان معارفهما، وتتواطأ معه أحياناً في مشاريعه ومحاولاته النجاح، وفي حماقاته أيضاً، كسرقة حليب من مزرعة الحبيبة لهدفٍ نبيل، برأيه: صناعة الجبن الذي كان والده يصنعه قبله.

يُقدّم الفيلم أيضاً صورة لطيفة وصادقة عن الصداقة والرفقة، ولحظات التعاطف والاختلاف، والكذب والاعتراف، والحبّ والمصلحة، حتى في هذا العمر الصغير.

بدا مجتمع القرية كأيّ مجتمع آخر، من دون مثاليات، في فيلمٍ لا يعتمد الإبهار بل البقاء وفياً للواقع، حتى في الإضاءة: استخدام الضوء الطبيعي المبهر في الصيف، في اللقطات الداخلية والخارجية، ما أضفى على الصورة إشراقة وسحراً، من دون تجميل. وإبراز التباينات بين النهار والليل بشكل طبيعي، من دون الاستعانة بإضاءات خاصة. وبينما تابعت الكاميرا أبطالها، وتحرّكت معهم بسرعة في مشاهد، كركوب الدرّاجة النارية والاحتفالات الصاخبة، بقيت ثابتة وبطيئة في لقطات، مثّلت حرج العلاقات العاطفية الأولى بين الشاب وحبيبته المُزارعة. وظهرت وَسَاعة المنطقة وجمالها بين حين وآخر كخلفية بدت على تناقض مع ما يشعر به توتون ورفاقه من ملل وحصار.

أدّى الجميع أدوارهم بعفويةٍ كبيرة، من دون أن يعني هذا عدم الاشتغال على الشخصية، لا سيما كْلِمان فافو. جميعهم من القرية، وهذه أدوارهم الأولى، أدّوها بلا مبالغات عاطفية في اللحظات الصعبة (اكتشاف سرقتهم، شجاراتهم... إلخ.)، كما في لحظات المرح والاحتفالات.

"يا للآلهة" رقيقٌ ومليءٌ بالحبّ والظرافة وقسوة الحياة الريفية، والمواقف الصعبة لشخصياته. إنّه جوهرة أحاسيس رقيقة، مسّت الجميع.

المساهمون