وثائقي "المخيّمات": سيرة بصرية لاحتجاجات طلاب جامعة كولومبيا
- يتناول الفيلم تطور الاحتجاجات وانتشارها في جامعات أخرى، مع التركيز على الجوانب الإنسانية والتحديات التي واجهها الطلاب، ويعزز السرد بالمونتاج والموسيقى دون إغراق عاطفي.
- يقدم الفيلم سرداً مضاداً لحركة التضامن، رابطاً بين الاحتجاجات الحالية وتاريخ 1968، ويدعو لفهم أعمق للتضامن الدولي وأهمية التعبير عن الرأي.
"المخيّمات" (The Encampments)، للمخرجين الأميركيين مايكل ت. ووركمان (Michael T Workman) وكي بريتسكر (Kei Pritsker)، وثائقيٌّ موجزٌ وواضحٌ (من إنتاج "ووترميلون")، يُقدّم سرداً أساسياً للاحتجاجات الطلابية، التي بدأت في جامعة كولومبيا بنيويورك ربيع 2024، وانتشرت بسرعة في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. يستند إلى شهادات الشباب الذين قادوا مخيّم التضامن مع غزة، ويُعيد إلى الأذهان أصوات أولئك الذين غالباً ما شُوّهت سمعتهم، أو تجاهلتهم التغطية الإعلامية السائدة للحركة.
بدأت الاحتجاجات في 17 إبريل/ نيسان 2024، عندما أقام الطلاب المؤيّدون للحق الفلسطيني مخيّماً مُكوّناً من نحو 50 خيمة في حرم الجامعة، أطلقوا عليه اسم "مخيم التضامن مع غزة"، مطالبين الجامعة بسحب استثماراتها المالية من الشركات التي تربطها علاقات تجارية بالحكومة الإسرائيلية. استُخدمت القوة لتفكيك المخيّم في اليوم التالي، عندما أذنت رئيسة الجامعة نعمت شفيق لقسم شرطة نيويورك باقتحام الحرم الجامعي، وإجراء اعتقالات جماعية. في اليوم التالي، أعاد الطلاب إنشاء المخيم، وبدأت الإدارة في التفاوض معهم، لكنّ المفاوضات فشلت (29/ 4). في اليوم التالي، اقتحم المتظاهرون قاعة هاميلتون واحتلّوها، ما أدّى إلى مداهمة ثانية لشرطة نيويورك، واعتقال أكثر من 100 متظاهر، وتفكيك المخيّم كلّه. إنّها المرة الأولى التي تسمح فيها الجامعة للشرطة بقمع الاحتجاجات في الحرم الجامعي، منذ مظاهرات 1968 ضد حرب فيتنام.
بدلاً من البدء بهتافات وخطابات احتجاجية، يحدّد صانعا "المخيّمات" نبرته بمونتاجٍ سريع لمذيعي أخبار، ومُعلّقين يندّدون بالطلاب الناشطين، ويصفونهم بـ"المتطرّفين" و"الخطرين" و"المقززين". تتخلّل هذه المقاطع لقطاتٌ من حرب الإبادة في قطاع غزة، مُؤطّرة تداعيات الاحتجاج، مع تسليط الضوء على الفجوة بين تصوير الإعلام للطلاب والواقع على الأرض.
التأثير مُزعجٌ ومُتعمّد. يكاد هذا التأطير يُقلَب، رأساً على عقب، عند لقاء المشاركين الرئيسيين في الفيلم، وهم ثلاثة من أبرز المنظّمين: سويدا بولات ومحمود خليل وغرانت مينر. هؤلاء يقدّمون أنفسهم في مقابلات هادئة ومدروسة، ويطرح كلٌّ منهم خلفيةً ومنظوراً مختلفاً للحركة، ويتحدثون جميعاً بوضوحٍ وإقناعٍ لافتين للانتباه. الفلسطيني محمود خليل، طالب دراسات عليا، شغل دورَ كبير المفاوضين مع إدارة الجامعة. مينر طالب يهودي وقيادي عُمّالي في الحرم الجامعي، يربط الاحتجاج بتاريخٍ أوسع من التنظيم النقابي. بولات طالبة دراسات عليا في مجال حقوق الإنسان، تُقدّم لمحةً شاملةً عن الروابط المالية للجامعة، وهياكل مجلس أمنائها. تُشير إلى أنّ الجامعة سحبت سابقاً استثماراتها من السجون الخاصة، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأخيراً من الشركات الروسية عقب غزو أوكرانيا. يجادل الطلاب بأنّ سحب الاستثمارات خيار سياسي اتّخذته الجامعة سابقاً، وربما تُكرّره.
يتتبّع "المخيّمات" كيف بنى الطلاب، بعد فشل دعواتهم المتكرّرة إلى سحب الاستثمارات، مخيّماً سلمياً وسط حدائق الحرم الجامعي. ما بدأ في جامعة كولومبيا ألهمَ سريعاً تحرّكات موازية في جامعات أميركية أخرى، من جورجيا إلى كاليفورنيا. حضر المخرجان منذ البداية بكاميراتهما داخل الخيام، وفي جلسات التدريس، وبين الحشود. المخرج كي بريتسكر، الذي عمل أيضاً مصوّراً سينمائياً، يبقى قريباً من الطلاب كلّ الوقت، مُلتقطاً الاحتجاجات، وأيضاً لحظات يومية ساهمت في استمرار الحركة: شبابٌ يطبخون ويرقصون ويتبادلون القصائد، ويناقشون الاستراتيجيات، ويحتضنون بعضهم بعضاً في ظلّ الضغوط المتزايدة للشرطة والإدارة.
بينما يزداد حجم الاحتجاج وشعبيته بسرعة، يظلّ تركيز "المخيّمات" على التفاصيل الإنسانية التي جعلته ممكناً. المونتاج (ووركمان نفسه والإيرانية المُقيمة في نيويورك مهدوخت محمود آبادي) سريع عند الحاجة، لكنه لا يصير فوضوياً أبداً. ومع انتشار الحركة، يضمن المونتاج أنْ تظلّ القصة متماسكة ومرتبطة عاطفياً، ويوجّه المشاهدين عبر الأحداث بسياقٍ تاريخي وسياسي كافٍ لوضع الحدث في مكانه من دون إغراقه. الموسيقى التصويرية بسيطة، لا تُستخدم إلا عند الضرورة، ما يسمح للأصوات المحيطة بالاحتجاج (الهتافات ومكبّرات الصوت والموسيقى) بالظهور وتأدية دورها. ضبط النفس جزء من قوّة فيلم، يثق بجمهوره ويتجنّب الإشارات العاطفية القاسية، ما يسمح لكلمات الطلاب وتعبيراتهم بحمل القصة.
ما يجعل "المخيمات" عملاً ملحّاً وراهناً مقدار ما لا يزال يتكشّف. في الثامن من مارس/ آذار 2025، احتجز عملاء دائرة الهجرة والجمارك في نيويورك محمود خليل، من دون أمر قضائي. في الشهر التالي، حكم قاضي هجرة في محكمة نائية في لويزيانا بأنّ خليل، المقيم الدائم في الولايات المتحدة من دون أي تهم جنائية، مؤهّل للترحيل، وهذا أثار غضباً وقلقاً لدى دعاة الحقوق المدنية. الرجل يظهر في الفيلم مُتّزناً وواضحاً وملتزماً التزاماً عميقاً بالمقاومة السلمية. مواجهته الآن فقدان إقامته تُضيف عاقبة واقعية مُرعبة لما أظهره الفيلم بالفعل: ستحمي المؤسّسات صورتها واستثماراتها، حتى على حساب الطلاب الذين تزعم خدمتهم.
مع ذلك، "المخيّمات" ليس عملاً يائساً تماماً. ففي دقائقه الأخيرة، يتوجّه إلى الصحافية الغزّية بيسان عودة، التي تتأمّل في قوّة التضامن الدولي، وعملية بناء الوعي العالمي البطيئة والمؤلمة. شهادتها، الموضوعة قبيل النهاية، تدعو المتفرّجين إلى فهم مخاطر تتجاوز الحرم الجامعي، وتُذكّر بأنّ التعبير عن الرأي مساندةٌ أيضاً.
يقدّم الفيلم تشابهاً تاريخياً بسيطاً، لكنه مُحدّد ودالّ. ففي عام 1968، احتلّ طلاب جامعة كولومبيا المباني احتجاجاً على حرب فيتنام والعنصرية المؤسّسية. ردّت الجامعة باعتقالات جماعية وعنف. بعد نحو 50 عاماً، تُخلَّد ذكرى تلك الاحتجاجات في معارض وأرشيفات الجامعة. يتساءل الفيلم عن معنى تعظيم مقاومة الماضي، ومعاقبة المعارضة الحالية.
قوة "المخيّمات" (80 دقيقة) كامنة في تركيزه على مَن كانوا هناك، وما فعلوه، وأهميته. بتقديمه سرداً مضاداً أساسياً لحركة التضامن، مُوثّقاً لحظة مقاومة بعناية ووضوح، يستوي فيلماً عن القوة والمقاومة في القرن الـ21، إذ اتّخذ كلاهما أشكالاً جديدة. تقريرٌ من خطّ المواجهة المتغيّر لصراع أيديولوجي حول الصواب والخطأ. سينما احتجاجية في أبهى صُورها وأكثرها سخاءً. بورتريه إنساني آنيّ لما يعنيه اتّخاذ موقف.