استمع إلى الملخص
- العلاقات بين الشخصيات معقدة وتعكس البناء النفسي والروحي، حيث تتأرجح علاقة جانّ/بيانكا بكرستينا بين الحب والكراهية، بينما تجد تيريزا في رحلتها هروبًا من صدمة السلطة.
- تعتمد الأفلام على عناصر جمالية ودرامية متنوعة، مثل "برج الجليد" و"اللون الأزرق الأخير"، لاستكشاف أعماق الشخصيات وطرح تساؤلات حول الخلاص والمصالحة.
يخرج آري (أندرانيك ماني) من وظيفةٍ وأبٍ، ويبدأ رحلةً بين/مع أصدقاء ومعارف، في بيئةٍ، ارتباكها أقلّ بقليل من ارتباك ناسها. تريد تيريزا (دنيز فاينبرغِ) فضاءً مفتوحاً لها، فتعيش مغامراتٍ تكشف لها أشياء مخفية من الحياة والمشاعر والتحدّيات (هذا جزءٌ بسيط من سيرتها). تسعى جانّ/بيانْكا (كلارا باسيني) إلى خلاصٍ من ثقلٍ غير واضحةٍ معالمُه، لكنّ ضغطه عليها مباشر وحادّ، فتلتقي "ملكة الثلج" كرستينا (ماريون كوتيار) في استديو، غير مُكتفٍ بتصوير فيلمٍ عنها (ملكة الثلج)، لاختراقه "محجوبات" في ذاتٍ وروحٍ ومشاعر وعلاقات ورغبات وخيبات. ثلاث شخصيات نسائية وشاب تلتقي في خراب مُدوٍّ، والتحرّر منه صعبٌ، والنهايات رغم انكشافها، تبقى مُعلّقة في حَدٍّ بين الاحتيال والتأكيد. ثلاث شخصيات نسائية وشاب في ثلاثة أفلامٍ مُشاركة في مسابقة الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، المشترك بينها (الأفلام الثلاثة) جماليات متفاوتة الجودة لتصويرٍ يُعرّي ويفضح، لكنّه يقول غليانَ ذاتٍ وروح ومشاعر، والغليان يبوح مُواربةً بما يعتمل في علاقات ورغبات، سيكون للخيبات بينها موقعٌ أحياناً.
فآري ("آري" للفرنسية ليونور سيراي) شابٌ يُشبه "المسيح بشعره الطويل" (كما يُقال له سخريةً أو تعبيراً عن حقيقة)، تائهٌ وسط ناسه، وبينهم أقارب وأحبة. توهانه يشي بسقوط في تمزّقات غير قابلة لشفاء أو عتق، قبل أنْ يلوح أفقٌ أو أملٌ بشفاء وانعتاق (أيكتمل الشفاء والانعتاق، أمْ أنّ هناك نقصاً في لحظة/مكان؟). وتيريزا ("اللون الأزرق الأخير" للبرازيلي غبريال ماسْكارو، الترجمة الحرفية للعنوان البرازيلي، أو "المسار الأزرق" بحسب العنوان الإنكليزي الدولي) عجوزٌ "تُطرد" (بلطفٍ) من وظيفتها في مصنع، لبلوغها 72 عاماً (والطارد يُشير إلى أنّ عمرها أكثر من ذلك بأعوام لتبرير طردها)، والدولة تنفّذ مشروعاً لحماية العجائز ودعمهم/دعمهنّ (!)، ولإتاحة مجال للشباب كي يعملوا/يعملن. هذا يدفعها إلى اختيار الأصعب، وإنْ من دون تفكير كثير: خروج إلى العالم، رغم حصار خانق. بهذا، تكاد جانّ/بيانْكا ("برج الجليد" للفرنسية ذات الأصل البوسني لوسيل هادجيهاليلوفيتش) تُشبهها، رغم الفارق الكبير في السنّ بينهما، فمن تُصبح لوقتٍ قصير صديقة "ملكة الثلج" مُراهقةٌ (16 عاماً) تريد مَنفذاً يُريحها من ثقلٍ قديم منبثق، كما يبدو، من "انتحار" أمّها (أهذا انتحار، أمْ شبيهٌ به؟)، وهي غير متجاوزة الأعوام الستة.
إنْ تكن علاقة جانّ/بيانْكا بكرستينا مُرتبكة، بتناقضات تتصادم لحظاتٍ طويلة بين حب وكراهية وانجذاب وتسلّط وعشق ورغبة، ومسائل أخرى كثيرة أيضاً؛ فإنّ الارتباك سمة أساسية، بل ركيزة البناء النفسي ـ الروحي ـ المعنوي ـ الفكري لآري، الذي يُحوّل هيامه في شوارع وأبنية وأفراد، إلى درب جلجلةٍ تمنحه سكينة غير مُكتملة ربما، مع أنّ النهاية توحي باكتمالها. أمّا تيريزا، فصدمة الاهتمام القاسي بها من سلطةٍ وأهل (لها ابنة واحدة تعمل في وظيفتين، ما يحول دون تنبّهها لواجبات ومطالب أخرى) دافعٌ لها إلى بحثٍ عن هروب، تبلغه باحتيالٍ يُتيح لها رحلةً جغرافية وروحية ونفسية، مُعبّأة بجمال طبيعة غريبة، وواقعية سحرية في بلدٍ، بل قارة (أميركا اللاتينية) بارعة في عيشها، لا في ابتكارها فقط.
اختيار "ملكة الثلج" (رواية الدنماركي هانس كريستيان أندرسن، المنشورة عام 1844) غير مُلزمٍ هادجيهاليلوفيتش اقتفاءَ مسارها بحرفيته ومناخه وتفاصيله، رغم انتقاء بعضٍ من هذا، وتصويره (المُصوّر جوناثان ريكِبور) بما يتلاءم والخراب الفظيع في أعماق كرستينا، الممثلة المنهارة والباحثة بدورها عن منفذٍ يُريحها من ثقل الموت فيها، أو ما يُشبهه. وإذْ يوحي "برج الجليد" بكونه فيلماً في فيلم، يتّضح سريعاً أنّ الفيلم الذي في فيلم هادجيهاليلوفيتش ذريعةٌ درامية وجمالية وتأمّلية للبحث عميقاً في أهوال "فردٍ"، سيكون في هذه الحالة امرأة ومُراهقة في آنٍ واحد.
"اللون الأزرق الأخير" و"آري" غير محتاجَين لنصٍّ مشهور، في رحلتي آري وتيريزا، وفيهما مشتركات، أبرزها بحثٌ عن شيءٍ/حالة/شعور لن يكون سهلاً عليهما تحديده. بحثٌ يُسيِّر آري وتيريزا في مجاهل يكتشفانها تدريجياً باختلافٍ جذري في آليات الاكتشاف، وإنْ بلغةٍ بصرية غارقة في الأسود والرماديّ مع بعض الأبيض بفضل ثلجٍ قليل (برج الجليد). لكنّ "اللون الأزرق الأخير" يمتلك مفردات، وإنْ تكن قليلة، من الواقعية السحرية المشهورة، و"آري" يُحوّل شخصيته الأساسية إلى شبيهٍ بمسيحٍ عصريّ، مستعيراً من النصّ الإنجيلي "فكرة" درب الجلجلة، الذي (الدرب) يسير عليه شابٌّ مُحطّم ومخنوق وتائه، يريد مُصالحةً مع ذاته والآخر، والدرب تلك أداة وحيدة للمُصالحة، أو لمحاولة تحقيقها على الأقلّ.
في هذا ما يُذكِّر بروز (فيونا شاو)، الأم المُقعدة، وابنتها صوفيا (إيما ماكّاي)، وصديقة الأخيرة إنغريد (فيكي كريبس)، في "حليب ساخن" للإنكليزية ريبيكا لنْكِوَيتش (العربي الجديد، 17 فبراير/شباط 2025): كلّ امرأة/شابّة تريد نفاذاً من قهر وخيبة وحصار واختناق وموت. ألن تكون تيريزا وجانّ/بيانكا وكرستينا مثلهنّ أيضاً؟ وآري، ألن تكون معاناته كمعاناتهنّ؟