نزاع سينمائيّ بين نصّ وصورة

نزاع سينمائيّ بين نصّ وصورة

26 يوليو 2021
موريس بيالا: صيف فرنسي ممتع (ويليام كاريل/ سيغما/ Getty)
+ الخط -

تنشر مجلات سينمائية غربيّة مقالات نقدية وحوارات سجالية، تتناول أفلاماً حديثة الإنتاج، وتلتقي سينمائيين وسينمائيّات بمناسبة جديدٍ لهم. تستعيد من ذاكرة الفن السابع فصولاً وحكايات ومراحل وشخصيات وأعمالاً. بهذا، تجمع بين ماضٍ غنيّ بنتاجٍ، يؤكّد يوماً تلو آخر قدرته على تأثيرات متنوّعة الأشكال، بعد مرور سنين مديدة على إنجازه، وحاضرٍ ينتصر على موتٍ يكتسح العالم، بوباء يُبدِّل أنماط العيش والعلاقات والتواصل.

مجلات كهذه تبتكر أيّ شيءٍ لإصدار أعدادٍ شهرية. تبحث عن مسائل وأفرادٍ، فتكتب وتحاور. تريد استمراراً، فالوباء غير باقٍ، والسينما فاعلة رغم ارتباك وقلق مؤقّتين، والحياة تستمرّ رغم موتٍ يُطارد الجميع منذ بدء الخليقة. تفتح الصالات السينمائية أبوابها مُجدّداً، فتنتعش المجلات، وتُفرد صفحاتٍ عدّة لأفلامٍ تُعرض، ولأخرى يُفترض بها أنْ تُعرض في الأشهر الباقية من عام 2021، وبعضها مُنجز قبل أعوامٍ. صفحات مليئة بمقالات نقدية وحوارات سجالية، وملفات تستغلّ حدثاً آنياً، فتُحوِّل كلّ ملفٍ إلى عالمٍ شبه كاملٍ من الصور والحكايات والتفاصيل: "صيف بيالا" في "دفاتر السينما"، و"برتران تافرنييه" في "بوزيتيف" (يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 2021) مثلٌ. الأول مُخصّص بالسينمائي الفرنسي موريس بيالا (1925 ـ 2003)، بمناسبة عرض أفلامه كلّها في صالات فرنسية مختلفة، صيف 2021. الثاني عن زميله ومواطنه تافرنييه (1941 ـ 2021)، في مجلةٍ تنشر أول مقالةٍ له كناقد، عام 1960.

الملفّان مهمّان. استعادة عالَمَين سينمائيين دعوة إلى تذكّر عناوين ومفاصل وانفعالات ومواضيع. المنشور فيهما يُقدِّم مقالات وذكريات وتحليل وخبرياتٍ وكتابات. صُور تستكمل المكتوب، والقراءة ممتعة، رغم الاختناق اللبناني الكبير.

هذا يطرح سؤالاً، ربما يمسّ "عاجزين" عن متابعة الحراك السينمائي في العالم، أكثر من غيرهم: أتكون القراءة تعويضاً، ولو مؤقّتاً، عن مُشاهدةٍ، قد يطول الوقت قبل تحقيقها؟ يتعلّق السؤال بجديد السينما في العالم. إمكانية المُشاهدة غير مستحيلة، فالوقت كفيلٌ بتحقيقها. الإجابة سهلة، فالقراءة تعويضٌ مطلوبٌ، خصوصاً إنْ كان المكتوب مُثيراً لمتعة وتنبّه وإعادة تفكير وسجال. ينسحب السؤال على آخر: هل يقرأ المُشاهِد السينمائي قبل المُشاهدة أم بعدها؟ أتُتيح القراءة (المعنيّة بنقدٍ وسجال، لا بخبرٍ صحافي أو مقابلة إعلامية غير نقدية) مُشاهدة أفضل قبل حصول المُشاهدة؟ أتؤثِّر القراءة بعد المُشاهدة في إحساس المُشاهِد وانفعالاته وتفكيره وانطباعاته، التي يخرج بها من الصالة، فتُغيِّر أو تُبلور أو تُضيف؟

 

 

أيّهما أكثر قبولاً: قراءة قبل المُشاهدة، أم بعدها؟ سؤال يُلحّ كثيراً في لحظة حصارٍ يعيشها كثيرون لأسبابٍ مختلفة، وفي كلّ لحظة أيضاً. في لحظة الحصار، تُصبح القراءة مُتنفّساً، تسمح للقارئ السينمائيّ المهتمّ بتواصل مع صناعةٍ يُحبّها. في كلّ لحظة، يشعر القارئ نفسه بمعضلة، فالإجابة تزداد صعوبةً، لأنّ لكلّ قارئ مزاجاً ورغبة وتفكيراً. ينسحب هذا أيضاً على الرواية، التي يُقتَبس فيلمٌ منها، رغم أنّ روايات كثيرة تُصبح أفلاماً بعد سنين طويلة على صدورها، ما يعني أنّ قراءتها تكون حتماً قبل المُشاهدة. مع هذا: أيُفضِّل المُشاهِد السينمائيّ قراءة رواية مُقتبسة حديثاً إلى فيلم، أم يقرأها لاحقاً، بانتظار المُشاهدة، أي بانتظار "تكوين" انفعالات وتواصلاً وتفكيراً، تنتج كلّها من المُشاهدة نفسها؟

طرح أسئلة كهذه محاولة لفهم المشهد. المجلات السينمائية (صحف يومية كثيرة تُخصِّص صفحات أسبوعية للسينما) تُدرك تماماً أنّ التقديم النقدي لفيلمٍ يلتزم مبدأً أساسياً: عدم كشف تفاصيل ومسائل تُعتبر جوهرية. تُدرك أيضاً أنّ الحوار السجاليّ غير محصور بالجديد فقط، فلصانعه تاريخٌ وأفلام، وإنْ يكن الصانع جديداً، فلحياته السابقة على أول فيلمٍ ارتباطٌ بالسينما والحياة والبيئة القادم منها. الحوار يلتزم، بدوره، عدم الكشف، وعندما يضطرّ المحاوِر إلى التطرّق إلى تفصيلٍ أو مسألة جوهرية (يندر أنْ يحصل هذا)، يُنبِّه القارئ ـ منذ البداية ـ إلى أنّ الحوار يكشف بعض ما يُفترض بالقارئ ـ المُشاهد السينمائيّ أنْ يكتشفه عند المُشاهدة.

مُشاهدون يقولون إنّ القراءة قبل المُشاهدة مطلوبة، لأنّها تساعدهم على اختيارٍ يظنّون أنّه صائبٌ، فللناقد مكانةٌ لديهم. نتيجة ذلك تختلف من فيلمٍ إلى آخر: صوابية اختيارهم بناء على القراءة تدفعهم إلى مزيدٍ من القراءة السابقة على المُشاهدة. عندما تكون القراءة متناقضة مع المُشاهدة، المبنية على القراءة أصلاً، ينفضّ هؤلاء عن كلّ قراءة سابقة. آخرون يُصرّون على المُشاهدة أولاً، إذ تكفيهم معلومات ومتابعات صحافية وإعلامية لاختيار هذا الفيلم أو ذاك.

يشعر الناقد بقلقٍ إزاء المطروح سابقاً. فهو مُشاهد وقارئ قبل أن يكون ناقداً. والنقد يجب أنْ ينبثق من مُشاهداته، والقراءة السابقة على المُشاهدة تؤثِّر، بشكلٍ أو بآخر، في كيفية المُشاهدة، خصوصاً عند قراءة حوارات سجالية. تؤثِّر أيضاً فيه بعد المُشاهدة مباشرة، فيضع مسافة للتأمّل والكتابة قبل القراءة. التأثير لن يكون كاملاً، فللناقد قدرة على الفصل بينه وبين مقروء ومُشاهَد. لكنّ القراءة، قبل المُشاهدة وبعدها، تؤثّر، بشكلٍ ما.

هذا تحدٍّ للناقد، لكنّه تحدٍّ جميل ومُحرِّض ونافعٍ.

المساهمون