نجوم النهار: عن البلاد التي تلتهم فقراءها

16 يناير 2025
عُرض الفيلم أمس في دمشق بعد منعه عقوداً (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط النظام السوري، ظهرت أفلام سورية قديمة وحديثة تعكس التوترات الاجتماعية والسياسية، مثل فيلم "نجوم النهار" للمخرج أسامة محمد.
- الفيلم، الذي صدر عام 1988، يعكس تأثير السلطة على المجتمع الريفي السوري من خلال قصة عائلة غازي، ويظهر كيف تهيمن الدكتاتورية على المجتمعات الصغيرة.
- يعالج الفيلم التناقضات في المجتمع السوري عبر مشاهد تجمع بين الواقعية والسوريالية، ويبرز شخصيات مثل خليل غازي، المثقف الفاسد، لكنه لم يُعرض كثيرًا في سوريا بسبب القيود.

بعد سقوط النظام السوري، عادت أفلام سوريّة إلى الواجهة، وأتيحت فرصة لمشاهديها بالنظر إليها بعيون جديدة، منها صدرت في السنوات الأولى من انطلاق الاحتجاجات، ومنها الآخر ما أنتج قبل عقود، وكان من بين هذه الأخيرة، ما أخذ طابعَ تجريد الواقع ومكوناته التي جعلت النظام يتكون ويستمر، ويتوارث لجيلين؛ الأسد الأب ومن ثم الابن، والأهم من هذا كله أنها تنبأت بأن هذا الواقع المحموم سينفجر ذات يوم، قريباً كان أم بعيداً.
كان من المأمول، شعبياً، أن تتغير سياسة النظام السوري بعد تسلّم بشار الأسد سدة الحكم في البلاد، إلّا أن الواقع جاء مختلفاً، فلم تتغيّر سياسة الأسد الابن عن والده؛ فقد ورث عنه الدكتاتورية، والمحظيين من جهاز النظام السابق، ومؤسسات الدولة، وأخيراً وليس آخراً ثالوث النظام، وعمادها الأول هو المؤسسة العسكرية الأمنية ويمسك بمفاصلها أبناء الريف، والثاني هو طبقة من تجار وصناعيي المدن الكبرى، ثم الأوقاف الدينية، وكذلك التفاوت الطبقي والاجتماعي بين الريف والمدينة، حتى وصل الأمر لأن يقال إنّ حافظ الأسد حكم البلاد من قبره.
في العقد الذي شهد مجزرة الإخوان المسلمين في مطلعه، ومن ثم صراع الشقيقين حافظ ورفعت الأسد على الحكم، جاء أسامة محمد بفيلمه الروائي الشجاع "نجوم النهار". العمل الذي صدر عام 1988، يمثّل علامة فارقة في السينما السورية؛ فهو الفيلم الأول الذي تحدّث بلهجة أبناء جبال الساحل السوري.
عاد أسامة محمد إلى دمشق، بعد غيابٍ دام أكثر من عقد، ومعه فيلمه الأيقوني "نجوم النهار" الذي رممته مؤسسة السينما العالمية "سينيتكا دي بولونيا". وبعد نحو أربعة عقود من إنتاجه، عُرض الفيلم أمس في دمشق.
لا بد لمن شاهد فيلم أسامة محمد الأول "خطوة بخطوة" أن يتوقع أنه أمام عمل يرمّز الواقع السوري مستعيناً بالسياق السياسي والاجتماعي لخلق محاكاة سينمائية تتخذ موقعاً دقيقاً من الأيديولوجيا المهيمنة، وتتعامل بمنتهى الحساسية مع المجتمع، وتشاكس الرقابة وتحتال عليها بغية تمرير رسائل سياسية غاية في الأهمية.
العزلة من المفاتيح الأساسية لفهم التركيبة الاجتماعية لعلويي سورية، وأسامة محمد يدرك جيداً هذه البنية، فهو ابن قرية الرامة في ريف اللاذقية، واختارها فضاءً لفيلميه "خطوة بخطوة" و"نجوم النهار"، ولكنه لم يجرّد المجتمع من سياقه المعاصر، ولم يحكِ قصته من دون أن يبين كيف تسللت السلطة إلى أدق مفاصل المجتمع الريفي السوري. ولذلك، عالج في فيلمه حالة الرضّ النفسي والخلل المجتمعي الذي يترتب عن هيمنة الدكتاتوريات على المجتمعات الصغيرة المعزولة، وليست أي مجتمعات، بل المجتمع الذي أفرز الدكتاتورية ومن ثم رزح تحت هيمنتها بحجة أنها ستحفظ وجوده.
يحيلنا المخرج من خلال قصة عائلة غازي التي يفكك عن طريقها بنية السلطة في الريف السوري، إلى أربعة أجيال من العلويين؛ أكبرهم هو الجد الذي يمثل الطائفة قبل أن تمسّهما (الجد والطائفة) السلطة وتلوث حالتها الروحية الباطنية، فالجد ينتمي إلى أولئك الذين شهدوا كيف صارت الطائفة العلوية أسيرة لدى النظام، لا مكان لمن يتمرد فيها سوى السجون، وهذا جزء من سياسة حافظ الأسد، وابنه من بعده، التي وجهت الطائفة لكي تنتمي إليه، لا أن ينتمي هو إليها.
شهد جيل الأجداد صعود السلطة على أكتاف أبناء الطائفة العلوية، وعاين الجد في الفيلم كيفية غزو السلطة للمجتمع الريفي ومكوناته في زمن أحفاده، وما ترتب عنها من تشكل عصبية طائفية؛ فالجد المريض، المنكب على قراءة القرآن والعبادة، ينتمي إلى الجيل الذي استشرف أن مزج العلويين بالسلطة سيورد الطائفة المهالك، أي أنه من أولئك الذين راقبوا من دون أن ينبسوا ببنت شفة صعود السلطة في صلب الطائفة، أو بالأحرى في صلب مجتمعاتهم الصغيرة، لتتبوأ ليس فقط رئاسة سورية، لكن زعامة الطائفة أيضاً.
أما خليل غازي وهو الحفيد الأكبر، فقد خيم شبح السلطة عليه؛ هو موظف المقسم، الذي تماهى مع المنظومة الحاكمة وتقمصها، وأعاد تدويرها ليمارس تسلطه الأبوي البطريركي على بقية أفراد أسرته، فحظي بمكانة يتفوق بها على كبار عائلته، وأصبح الآمر الناهي، ذا النفوذ والسلطان.
وبناءً على ذلك، خطط لجمع شتات العائلة، والهيمنة على أراضي أبناء العموم، مدفوعاً بنزعة التملك والسيطرة، ونظم عرساً عائلياً يجمع زوجين من أبناء العموم، العريس الأول هو الدكتور كريم وعروسه سناء، والعريس الثاني هو كاسر وعروسه ميادة.
يقول توفيق غازي في مرحلة متقدمة من الفيلم: "القرن العشرون هو قرن تعايش المتناقضات". وفي العرس تحديداً، يجتمع الضدان، بسخرية بالغة. الواقعية والسوريالية تجتمعان حين يخلق أسامة محمد مستويين للواقع؛ العرس بمشهده الحي، والمشهد المصور في شاشة التلفزيون الذي وضع في العرس أيضاً، والرصاص والسلاح، إلى جانب الأغنيات والفرح، والمغني الشعبي ومظاهر السلطة، والشعارات البعثية الرنانة وأبيات من الشعر، وهذين الأخيرين يردان في مونولوج واحد يلقيه توفيق على آذان الحاضرين. توفيق هو نموذج للمثقف الذي أنتجته المنظومة البعثية، مثقف فاسد ومتكلف ومحدث نعمة يحمل زجاجة الشامبانيا معه أينما حلّ، هو ثرثار ومغتصب أيضاً.
لا تنتهي الشعارات التعبوية مع استعراض قصير لطفلين توأمين، تدربا على إلقائها بببغائية. الجيل الجديد الذي أنتجته منظومة السلطة من خلال مؤسستها "طلائع البعث"، يسهمان في تحويل الزفاف إلى عرسٍ وطني يشبه المسيرات والاحتفالات التي تتبع فوز حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد بالاستفتاء على الرئاسة بنسبة تفوق 99%.

ينقطع العرس على كارثة. العريس كاسر يلتهم "رغيف الوطن" ولعلّ هيئته التي تعلوها أمارات البلاهة والحبيب الغائب الذي يلوح في الأفق، دفعا ميادة الفتاة التي زوجت قسراً إلى الفرار؛ فهي ترفض أشد الرفض أن تعيش في عزلة ومحدودية القرى، وحبيبها البعيد لديه "سرفيس" سيأخذها فيه لرؤية كامل الجغرافيا السورية، وفي "الضيعة ما في نشاطات بالمرة". تهرب ميادة وينتهي العرس، وترفض سناء الزواج من ابن عمها ثأراً لأخيها، فيدبر الدكتور عائداً إلى ألمانيا.
بينما يودعه أبناء أعمامه، تقسم أسلاك الميناء الكادر إلى نصفين، الباقون في البلاد وراءه، أما المهاجر فيقف أمام السلك حيث لا حدود ستفصل بينه وبين العالم. هكذا أصبح العالم عالمين: واحد مغلق تسوّره الدكتاتورية وتزجه في سجن، وآخر ذو أفق أوسع وأرحب.
يمثل أب الأخوة غازي إرهاصات العنف في المجتمع العلوي وبداية تجلياته، فهو المذنب الأول بحق كاسر، ابنه الضعيف المهزوم، وبعد أن يهجّ ويفارق خشونة عائلته، لا يفارقه شبح طفولته، الصفعة الأولى، ومن ثم الطرش، ومن بعدها كيف أهينت ذكورته جراء صفعةٍ أخرى من أخيه، وأخيراً وليس آخراً الصفعة التي سيتلقاها من غريب في دمشق، حيث ينتظر قريبه العسكري ويعانقه، ومن ورائهما لافتة لحفل فؤاد غازي (في مطعم القصر)، وما عناقهما الطويل سوى اتحاد الفقراء المهمشين مع المؤسسة العسكرية التي استقطبت سكان الريف، حتى طغت عليها صبغة ريفية، ستعمل بدورها على ترييف المدينة، فقد كان حافظ الأسد يعرف أن من يملك الجيش يملك القوة والسلطة ولذلك ضيّق الحياة الريفية وأغوى أبناء القرى الهامشية بالمدن وفتح أمامهم باب التطوع لكي يصبحوا جزءاً من نسيج المدن الكبرى، وكذلك مكوناً من مكونات السلطة، الأمر الذي استثمره بشار الأسد بعد انطلاق الاحتجاجات وفجر من خلاله حرباً طائفية، جاعلاً من جهاز الجيش درعاً بشرياً يضمن بقاءه على كرسي الرئاسة.
كان لأحداث فيلم أسامة محمد أن تجري في أي مجتمع قروي سوري أصابته لوثة المدينة، وفتن مخيلته فضاء المدن المتناهي الأطراف والغرائبي والشرس. ففي الحقيقة، لم تكن المدينة أقل ضراوةً على أبناء الريف من قراهم.
لدى كاسر وميادة الأحلام ذاتها، كلاهما يطمح إلى مغادرة القرية، وكلاهما سمع عن المدن الكبيرة واتساعها، ذاك العالم المُشتهى، وهما كغيرهما من أبناء الريف، تحولت القرية لتصبح مثاراً لضيقهما وبؤرةً لتململهما، فبعد أن هاجر كثير منهم إلى المدن وشرعوا ببناء أحزمة البؤس حول المدينة، اتضحت الفجوة الاجتماعية بين الفضائين (الريف والمدينة)، بينما شكلت العشوائيات فضاءً هجيناً، ليس هو ريفي وليس مدينياً... إنه فضاء بائس من الكتل الإسمنتية الصماء. تهرب ميادة مع حبيبها ولا تعود، أما كاسر فيهيم على وجهه في دمشق، يغرق في ضباب المبيدات الحشرية حين يطوف ساحاتها الكبيرة، على الرغم من تحذيرات صديق طفولته: "دير بالك ولا بتغرق".
ولأن "الظلم مؤذن بخراب العمران" حسب ابن خلدون، تنهار عائلة غازي بعد مغادرة كاسر القرية؛ إذ يشتعل صراع عائلي على موضع المقبرة. وكما تكون "العصبية" مسؤولة عن القيام والديمومة، فإنها أيضاً السبب الأبرز للسقوط والانحدار، فمقبرة العائلة التي قرّر الجد مكانها في بداية الفيلم، فجرت أزمة عائلية في نهايته.
لا نبالغ إن قلنا إنّ أسامة محمد في فيلمه هذا أوجد العالم من جديد وأعاد صياغته، حتى تكاد الصورة في فيلمه تنطق وتغني. يغوص المخرج بعمق في العالم الداخلي لشخصياته، ويصور تارةً انعكاسها على مرآة مكسورة وأحياناً أخرى على بلور، أو على سطح ماء، وكأنه يعكس حجمها الحقيقي ودورها في مجتمعها المصغّر، ويتفنن بالإيقاع الداخلي للمشهد والسرد وينتقل بسلاسة مبهرة بين ماضي الشخصيات وحاضرها، بين الريف والمدينة، بين القسوة والرهافة، بين الكوميديا والتراجيديا.

يترك الكثير لنباهة المشاهد وقدرته على فهم الاستعارات، لتغدو الكاميرا في أفلام أسامة محمد عين المشاهد الثالثة المراقبة والمتفحّصة، التي تملك وجهة نظر مما تراه، وهذا في حدّ ذاته جوهر سينما محمد، فالمخرج يضع العالم في إطار، ويعرض إطاراً مصطنعاً داخل إطار الصورة، وكأنه يجعل المشاهد على مسافة من القصة، فيبين حالة التكبيل والتغليل التي تعيشها شخصيات الفيلم.
يركن طيف حافظ الأسد وراء شخصية خليل في الفيلم، كذلك وراء صور الفنان المنحدر من الريف فؤاد غازي التي ملأت شوارع العاصمة دمشق، وربما رأى الأسد نفسه في "نجوم النهار" ولذلك قرر تقييد عرضه في السينمات السورية، مقابل إرساله إلى مهرجانات السينما العالمية ليمثل سورية، فلم يعرض الفيلم داخل البلاد سوى مراتٍ معدودة، ومن المفارقات أن المؤسسة التي أنتجته هي نفسها التي قيدت عرضه لعقود.

المساهمون