"ميكروفون" بعد عقد ونصف: الإسكندرية تغني وتصمت

14 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 06:24 (توقيت القدس)
خالد أبو النجا وجائزة التانيت الذهبية عن فيلم ميكروفون قرطاج، 2010 (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عودة فيلم "ميكروفون" إلى الأضواء بعد 15 عامًا من عرضه الأول، حيث تم تكريمه في سينما زاوية واختياره ضمن أفضل 25 فيلمًا في الألفية الجديدة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ويُعتبر شهادة على مرحلة اجتماعية وثقافية مهمة في مصر.

- تدور أحداث الفيلم حول خالد العائد إلى الإسكندرية، ويعكس التحولات الاجتماعية والدينية، ويُظهر خيبة أمله من مدينته ورحيل حبيبته، محاولًا دعم الفرق الموسيقية المستقلة، ويُعد من أفلام المفاصل في تاريخ السينما المصرية الحديثة.

- يستعرض الفيلم كواليس صناعة الفن وتهميش الفنانين المستقلين، ويُظهر الصراع بين السلطة وحرية التعبير، ويُعتبر قصيدة عن جيل محاصر حلم بتغيير العالم بالفن، لكنه واجه الواقع بالخذلان، وأصبح أيقونة بصرية لجيل كامل.

بعد مرور خمسة عشر عامًا على عرضه الأول، يعود فيلم "ميكروفون" (2010)، للمخرج أحمد عبد الله السيد إلى دائرة الضوء في المشهد السينمائي المصري، بعدما حصد خلال أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تكريمين أعادا إليه ألقه. فقد أعيد عرضه جماهيريًا في سينما زاوية في نهاية سبتمبر/ أيلول ومطلع أكتوبر، ضمن احتفالية مرور عشرين عامًا على تأسيس شركة فيلم كلينك، كما اختير ضمن أفضل خمسةٍ وعشرين فيلمًا في الألفية الجديدة وفقًا لتصنيف مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، بالتعاون مع الاتحاد الدولي لنقاد السينما وجمعية النقاد المصريين.
الفيلم الذي اتخذ من الإسكندرية مسرحًا لأحداثه، هو شهادة على مرحلة كاملة في التاريخ الاجتماعي والثقافي المصري قبيل ثورة يناير/ كانون الثاني. في هذا العمل الذي يمزج بين الحنين والتمرد، وبين سيرة مدينة وسيرة جيل، تتحول الإسكندرية إلى بطلٍ صامتٍ يراقب تحولات الفن والسياسة والإنسان معًا.
تبدأ حكاية الفيلم مع خالد (خالد أبو النجا)، العائد من الغربة بعد سبع سنوات في الولايات المتحدة. يعود إلى الإسكندرية محمّلًا بذكرياتٍ غامضة وأسئلةٍ لا إجابة لها. المدينة التي كانت تفيض حياةً وتنوعًا، صارت ضيقةً، متزمتة، مشوشة الهوية. في أحد المشاهد الرمزية، يصرخ خالد في الشارع متسائلًا عمّا حدث، فتصطدم به امرأة منتقبة تسحب ابنها بعيدًا، مشهد يختصر التحول الاجتماعي والديني الذي أصاب المدينة الساحلية في سنوات ما قبل الثورة.
حين يُسأل خالد عن سبب عودته، يبتسم ساخرًا ويُخفي الأسباب. يعيش خيبتين متتاليتين: خيبته من مدينته التي لم يعد يفهمها، وخيبته العاطفية بعد رحيل حبيبته إيشاك إلى الخارج. يحاول أن يعوّض هذا الفقد بانخراطه في دعم الفرق الموسيقية المستقلة عبر عمله في مؤسسة "جدران الثقافية"، ساعيًا لأن يمنح الفنانين الشباب مساحة للتعبير، وأن يهبهم، كما يقول في جملة تلخص فلسفة الفيلم: "نفسي نعملهم حاجة... نديهم صوت".
يُعد "ميكروفون" من أفلام المفاصل في تاريخ السينما المصرية الحديثة، إذ رافق ولادة الموجة المستقلة في نهاية العقد الأول من الألفية. بميزانية محدودة وبأدوات شبه بدائية، صنع أحمد عبد الله فيلمًا جمع بين التجريب والموسيقى والواقع الاجتماعي.
يضم الفيلم أكثر من ثلاثين فنانًا (بينهم فنانين عرفوا شهرة واسعة لاحقاً مثل فريق مسار إجباري)، معظمهم من الموسيقيين، في محاولة لرسم خريطة للحراك الفني السكندري في تلك الفترة. شبابٌ يعزفون في الشوارع، ويرسمون الجدران، وينتجون موسيقاهم بأنفسهم في غياب أي دعم رسمي. هم صورة لمدينةٍ تحاول التنفس خارج إطار الدولة.


يستثمر الفيلم هذا الواقع ليعرض كواليس صناعة الفن في مصر آنذاك، ويفضح تهميش الفنانين المستقلين وغياب الاعتراف بهم. فالموسيقيون في الفيلم يعملون بصمت، بلا مؤسسات ولا ردات فعل، أشبه بمن يصرخ في فراغٍ لا يسمعهم أحد.
خالد، بطل المدينة في عيني المخرج، هو سكندري كفافيس الجديد: غريب في وطنه، تائه بين الانتماء والخذلان. في كل مشهد، يلاحقه سؤال الغربة داخل المكان. حبيبته تغادر، والمدينة تتغير، والفن يفقد مكانه، فيما هو يحاول أن يجد عزاءه في الموسيقى والفنانين الذين يؤمن بهم.
في مشهدٍ مؤثر، يُحاول إقامة حفلة موسيقية في الشارع، لكن السلطة الأمنية تمنعها، فيما تقام صلاة جماعية في وسط الطريق. هنا يتجسد الصراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكلاهما يقف في وجه حرية التعبير.
وفي النهاية، يذهب خالد إلى البحر مع رفاقه المرهقين، يحرر أحدهم سمكة في الماء، كأنها استعارة لخلاصٍ لم يتحقق بعد. يجلسون أمام البحر صامتين، يتأملون الحرية التي لم ينالوها، بينما تتردد أغنية "اقرا الخبر" لتعلن خيبة الحلم الجماعي.
جاء الفيلم ابنًا لمرحلة ما قبل الثورة، حين كان الغضب يغلي تحت السطح. من خلال الحوار الحاد بين خالد والمسؤول الثقافي، الذي يعتبر الغرافيتي "تلويثًا بصريًا"، يفتح الفيلم سجالًا حول الحدود بين الفن والسياسة، بين الجمال والنظام. يرد خالد قائلًا: "ولا لافتات الانتخابات مش تلويث؟"، في مشهد أصبح أحد أكثر لحظات الفيلم تداولًا على وسائل التواصل.
بهذا المعنى، لم يكن "ميكروفون" فيلمًا عن الفن فحسب، بل عن سلطة الفن في مواجهة السلطة السياسية، وعن كيف يصبح الإبداع شكلًا من أشكال المقاومة اليومية.
المفارقة الكبرى أن العرض الخاص للفيلم أقيم يوم 25 يناير 2011، اليوم الذي اندلعت فيه الثورة المصرية. لم يحضر العرض سوى القليل من المشاهدين، إذ كان معظم الحاضرين المفترضين في الميدان. تحققت نبوءة الفيلم في اللحظة ذاتها التي أُطلق فيها إلى العالم.
ورغم أن الفيلم لم يحظَ بتوزيعٍ تجاري واسع بسبب الظروف السياسية، إلا أن المخرج والمنتج محمد حفظي يؤكد أن "ميكروفون" ظلّ يجد جمهوره بمرور الوقت، وأصبح أيقونة بصرية لجيلٍ كامل، تَناقلها الشباب على القنوات والمنصات باعتبارها جزءا من ذاكرتهم الثقافية.
اختيار الإسكندرية لم يكن اعتباطيًا. المدينة التي عاشت حقبًا من التعدد والانفتاح تحولت تدريجيًا إلى صورة مصغّرة من القاهرة المحافظة. يلتقط الفيلم هذا التحول بحساسية بصرية عالية، في مشاهد يتجاور فيها البحر مع الشوارع الضيقة والجدران المدهونة بالشعارات الدينية.


في هذه الخلفية، تتقاطع قصص الحب والخذلان. سلمى (يسرا اللوزي)، ومجدي (أحمد مجدي)، الثنائي الشاب المهووس بالسينما الواقعية، يمثلان جيلًا جديدًا من المبدعين الذين لا يملكون سوى الكاميرا والإيمان. المخرج نفسه يختبئ خلفهما، معترفًا بارتباكه باعتباره مجربا يبحث عن لغةٍ جديدة.
يبدأ الفيلم بسؤالٍ طرحه مجدي على سلمى: ما الفرق بين الفيلم التسجيلي والروائي؟ هذا السؤال البسيط يتحول إلى مفتاح للفهم. "ميكروفون" يعلن من بدايته أنه فيلم عن الحياة أكثر من كونه عن السينما، عن الواقع لا عن التمثيل، عن الأصوات المهمّشة لا عن الأبطال.

يخفي صُنّاع الفيلم كاميراتهم داخل صناديق الورق، يصورون الناس كما هم، في حركة تشبه السينما المتمردة في بداياتها. يتركنا أحمد عبد الله أمام تجربة صادقة وغير مصقولة، كأنها دعوة للجيل الجديد إلى مقاومة الزيف الفني الذي فرضته الصناعة التجارية.
ربما كانت الإسكندرية في "ميكروفون" أشبه بنبوءة لمدينةٍ كانت ذات يوم حضنًا للفن، ثم تحوّلت إلى فضاء مغلق. شخصية هدير، التي تستعد للرحيل لأنها لم تعد تجد وسيلة للتواصل مع المجتمع، تجسد هذا الضيق المتزايد بالأفق والخيال، وهي تسأل: "إمتى تحس إن البلد دي بلدك؟" — سؤال ظلّ يلاحق كل من شاهد الفيلم حتى اليوم.

في لقاءٍ لاحق، أجاب المخرج بأن الإسكندرية هي مدينته الحقيقية، وبأنها ألهمته الروح التي بنى عليها فيلمه. ومع ذلك، يشعر المتفرج بأن المدينة في الفيلم ترفض الجميع، وكأنها رمز لمصر التي تُضيّق الخيال وتخنق الاختلاف.
في المشهد الأخير، يجلس خالد ورفاقه على الشاطئ، يحدقون في الأفق. البحر وحده يبدو حرًّا، فيما البشر محاصرون بين سلطتين لا ترحمان. يحرر أحدهم سمكة في المياه، في لقطةٍ تُلخص الفيلم كله: رغبة في الحرية لا تتحقق، لكنها تظل فعلًا رمزيًا ضد الانكسار.
"ميكروفون" إذن ليس مجرد فيلم موسيقي أو وثائقي عن مدينة، بل قصيدة عن جيلٍ محاصر، حلمَ أن يغيّر العالم بالفن فواجهه الواقع بالخذلان. بعد خمسة عشر عامًا، لا يزال الفيلم يحتفظ بقدرته على لمس الوجدان، وعلى استعادة صوت الإسكندرية التي أرادت أن تغنّي فكمّموها، لكنها ما زالت — رغم كل شيء — تحلم بالميكروفون.

المساهمون