استمع إلى الملخص
- مسلسل "مو" كنافذة على حياة اللاجئين: يعرض المسلسل حياة اللاجئين الفلسطينيين في الولايات المتحدة بأسلوب كوميدي ساخر، مسلطًا الضوء على التحديات اليومية وتأثير الأوضاع السياسية، مع التركيز على قصة عائلة النجار.
- النجاح والتأثير الثقافي: حقق مسلسل "مو" نجاحًا كبيرًا بفوزه بجوائز مرموقة، مما زاد من شهرة محمد عامر وفتح المجال للفنانين الفلسطينيين لعرض قصصهم على منصات عالمية.
تعرفت إلى زوجي قبل ثمانية أعوام خلال رحلة سياحية إلى نيويورك. أعجبت كثيراً بالمدينة حينها، ووجدت فيها كل ما توقّعته، فهوليوود لم توفّر أي تفصيل إلا وعرضته من خلال أفلامها ومسلسلاتها التي تدور أحداثها ويتنقل أبطالها في "التفاحة الكبيرة". لم تصدمني الزحمة في ساحة تايمز سكوير، ولم تزعجني المواصلات العامة وضرورة الصعود والنزول في محطات مختلفة، على عكس زوجي الذي لم يتوقّف عن الشكوى من كل شيء والتعبير عن رغبته في الرجوع إلى ولاية تكساس والاستمتاع بهدوء مدينة هيوستن. عندما انتقلت أخيراً إلى العيش في هيوستن، انقلبت الأدوار، واستحققت الصدمة الثقافية التي طغت على عامي الأول هنا. والحقيقة أن اللّوم يقع على هوليوود، لتركيزها على نيويورك وكاليفورنيا وميامي، وإهمال تمثيل الولايات الأخرى.
لكن منصة نتفليكس انتهجت سياسة مغايرة من خلال "صندوق نتفليكس للمساواة الإبداعية" المخصص "للمساعدة في بناء مسارات جديدة للمجتمعات غير الممثلة في مجال الترفيه". وفي هذا الإطار يمكن وضع مسلسل "مو" (Mo) من كتابة وبطولة الكوميدي الفلسطيني-أميركي محمد عامر. "مو" الذي عُرض موسمه الأول عام 2022 وبدأ عرض موسمه الثاني في 30 يناير/ كانون الثاني 2025 يروي تفاصيل حياة لاجئ فلسطيني في مدينة هيوستن في الأميركية، مستعرضاً مصاعبه المعيشيّة الناتجة عن تأخر قضية لجوئه قانونياً لمدة 22 عاماً.
للمرة الأولى، شاهدتُ هيوستن على حقيقتها على شاشتي الصغيرة، فقد تمكّن محمد عامر وشريكه في كتابة النص الممثل رامي يوسف من عرض صورة مفصّلة عمّا يعانيه اللاجئ غير القانوني في الولايات المتحدة. منذ بدء الموسم الأول، يعرض المسلسل كيف تؤثّر الأوضاع السياسية على الحياة اليومية للأفراد، إذ يخسر "مو" عمله في متجر للهواتف بسبب زيارة مفاجئة تقوم بها إدارة الهجرة والجمارك الأميركية إلى هذا المتجر. ويستكمل عرض المراحل التي يمر بها "مو" في محاولة جني رزقه وإعالة عائلته، فيتنقّل بين العمل في بيع السلع المقلّدة من صندوق سيارته، إلى العمل في نادٍ للتعري وغيرها من الوظائف المؤقتة.
إلا أن محمد عامر لم يقف عند تقديم قصة اللاجئ الفلسطيني في الولايات المتحدة بوصفها قصة هامشية، بل أخذ على عاتقه أن يعرض للمُشاهد الصورة الحقيقية للاجئين الفلسطينيين أجمع في الشتات، من خلال سرد قصة عائلة النجار، أبطال المسلسل. وفي سبيل خدمة مصداقية القصة وواقعيتها، سخّر عامر تفاصيل من قصة حياته الشخصية، لعرض حقيقة ما يعنيه اللجوء وانعدام الجنسية بين الفلسطينيين، وتأثير هذا الوضع السياسي على فرص عيش الفلسطيني حياة طبيعية في الشتات. وتتبلور هذه المعضلة بوضوح في الموسم الثاني من المسلسل، حيث يجد "مو" نفسه في المكسيك عن طريق الخطأ، من دون أي أمل للرجوع إلى الولايات المتحدة. فلا هو أميركي، ولا هو فلسطيني، ومن دون أوراق ثبوتية فرصته الوحيدة للرجوع إلى هيوستن هي عن طريق الحصول على جواز مرور تمنحه له السفارة الأميركية في المكسيك.
وفي حديث مع مجلة ذي أتلانتيك الأميركية، يعترف عامر أن المشهد الذي يتصادم فيه "مو" مع السفير الأميركي هو أحد المشاهد المفضّلة لديه في المسلسل. فعندما يحاول السفير تهنئة "مو" على حصوله على فرصة الرجوع بشكل قانوني إلى هيوستن، يرفع كأسه ليشرب نخب "عودتك سالماً ونهاية سلمية للصراع"، ما يستفزّ "مو" الذي يحرص على تصحيح السفير بأن ما يحدث ليس صراعاّ، بل هو احتلال. يحتد النقاش بينهما، وعلى الرغم من أن مستقبل "مو" وضرورة رجوعه إلى الولايات المتحدة لحضور جلسة قضية الحصول على الجنسية الأميركية على المحك، فإنه يرفض أن يخون قضيته للحظة ويثبت على موقفه في الدفاع عن هويته. وبحسب وصف محمد عامر لـ"ذي أتلانتيك"، فإن "مو على استعداد لتدمير حياته الخاصة للتأكد من بقائه وفياً لها (هويته)، ويحاول البقاء وفياً لنفسه". بالطبع، يخسر "مو" فرصته في الحصول على جواز المرور والرجوع بشكل قانوني إلى هيوستن، ما يضطره إلى عبور الحدود بشكل غير قانوني، منتقلاً بذلك إلى عرض أزمة الهجرة من المكسيك إلى ولاية تكساس.
وتظهر حنكة محمد عامر في إيصال رسائله من خلال المسلسل من دون أن يشعر المشاهد بأن هناك من يحاول تثقيفه أو شرح موضوع حساس له. تسلسل الأحداث سلس ومضحك، وإن دخلت فيه عناصر الكوميديا السوداء. ولعلّ هذا ما يبرع فيه محمد عامر بشكل خاص، إذ تأسّست مسيرته المهنيّة على قدرته على استخدام الكوميديا السوداء في عروض الستاند أب كوميدي.
لكنّ عامر واجه تحدياً مهنياً حقيقياً أثناء كتابته الجزء الثاني من مسلسل "مو"، إذ تزامن مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة. قرّر عامر عدم التطرّق إلى هذه المقتلة الفلسطينية المتواصلة، للحرص على عدم إيصال رسالة ملتبسة تختصر تاريخ القضية الفلسطينية بأحداث 7 أكتوبر وما بعدها، وتابع قصة المسلسل بسياقها الأصلي الذي يرتكز على رمزية الزيتون وحلم عائلة النجار في زيارة أقاربهم في فلسطين، وفق ما أشار إليه في تصريحات صحافية.
وهكذا، ختم عامر الموسم الثاني من مسلسل "مو" بحلقة مؤثرة لامست قلوب المشاهدين، فلسطينيين وغيرهم، تصوّر زيارة عائلة النجار إلى بلدهم فلسطين، عارضاً المشقّات اليومية التي يواجهها فلسطينيو الداخل من قبل الجنود الإسرائيليين على نقاط التفتيش، ومن قبل المستوطنين الذين يتعرضون لهم في كل فرصة تتاح لهم. وعلى الرغم من كل هذه المصاعب، تجتمع عائلة النجار حول مائدة واحدة، يأكلون ويمزحون ويتحدون الاحتلال بصمودهم. وإن كانت لهذه الزيارة رسالةٌ أبرز، فهي أن اللاجئ الفلسطيني يتحدى مصاعب انعدام الجنسية ويعمل جاهداً للحصول على جنسية أخرى، ليمارس حقه بالعودة، ولو لزيارة، ولو مواطناً أجنبياً.
وبفضل موهبة محمد عامر الاستثنائية، فاز مسلسل "مو" بجائزة غوثام لأفضل مسلسل خارق قصير (أقل من 40 دقيقة) وجائزة بيبودي عن فئة الترفيه عام 2022، بالإضافة إلى جائزة أفضل أداء رئيسي في مسلسل مكتوب حديثاً في حفل جوائز الروح المستقلة عام 2023.
أضاف مسلسل "مو" ونجاحه إلى شهرة عامر، فاستضيف في أكثر البرامج الحوارية شهرة في الولايات المتحدة مثل "ذا ديلي شو" مع جون ستيوارت الذي وصف المسلسل بقوله "إنه عن انعدام الجنسية، عن انعدام الانتماء، وفي الحلقة الأخيرة تُظهر ذلك الارتباط بالأرض، ارتباط عائلتك بالأرض، ارتباط والدك بالأرض... وتعرض شريط فيديو لوالدك الحقيقي. وعند رؤية هذا المقطع، فكرتُ أنها لحظة جميلة للغاية وضعت (الحبكة) في سياقٍ إنسانيٍّ جعلني أفكر؛ هؤلاء مجرد أناس يعيشون على قطعة أرضٍ فيها بعض أشجار الزيتون التي كانت ملكاً لأجدادهم وأجداد أجدادهم، وقد فعلتَ ذلك ببراعةٍ بالغة... وأعلم أن هناك الكثير من الضغط لأنكَ العرض الفلسطيني الوحيد، ولكن ما أبدعتَ فيه فنيّاً هو أنك رويت قصتك، وهي مجرد قصة واحدة، لكنها مؤثرةٌ ومضحكةٌ ومعقدةٌ وجميلةٌ مثلك".
والآن وقد فتح محمد عامر المجال أمام الفنانين الفلسطينيين لعرض قصصهم عبر منصات ذات جمهور واسع وأكثر عالمية مثل "نتفليكس"، نتأمل بأن تفلت روايات الأقليات المستضعفة إعلامياً من قبضة هوليوود ومن مهرجانات الأفلام التي تقيّد الفنانين وتجبرهم على صياغة قصصهم بحذر بالغ والتعاون مع فنانين تتعارض رسائلهم مع الهدف الحقيقي للفيلم المنتج، على غرار ما حصل مع الفلسطيني باسل عدرا في فيلم "لا أرض أخرى".