موسيقى 2020... تسارع في الإشارات والتحولات

موسيقى 2020... تسارع في الإشارات والتحولات

27 ديسمبر 2020
أقيمت عروض موسيقية من دون حضور الجمهور (الأناضول)
+ الخط -

كورونا. اسم على كل لسان يُجمل حصاد العام المشرف على الانقضاء - ولا أسف - بكلمة واحدة. ليس حصاد الموسيقى وحده، وإنما في أي حقلٍ من حقول الحياة. بضعة شرائط أخبار عاجلة، شوهدت عابرة أسفل الشاشات خلال نشرات الأخبار مطلع السنة، تتحدث عن رصد مجموعة إصابات بعدوى فيروسية في إقليم ووهان جنوبي الصين، تعذّر الشفاء منها. حينها، لم يخطر ببال أحد، سوى قلة قليلة من العلماء، أن ذلك الفيروس، الذي أطلق عليه كوفيد - 19، سيزحف على قارات الأرض السبع، مُبدّلاً حياة البشر لبضع سنوات قادمة، إن لم يكن إلى الأبد.

في الموسيقى تحديداً، أضاف كورونا انعطافة أخرى لم تكن متوقعة على طريق كانت أصلاً وعرة وقد شهدت على مرّ العقدين الآخرين جملة انعطافات حادة، تبدو في بعض الأحيان كما لو أنها تقود إلى تغيير هيئة الإنتاج الموسيقي كلياً وجذرياً، أكان ذلك في الشكل أم في الأداة، أو حتى في طريقة التوزيع وطبيعة الاستهلاك، وسُبل جني الأرباح والعوائد التي تبدو، إلى حين تبلور مشهد إنتاج فني جديد، كأنما تعاني ركوداً حاداً، وحتى كساداً على صعيد أنماط النشاط الموسيقي التقليدية، كإحياء الحفلات وإقامة المهرجانات، وإطلاق الجولات المحلية والعالمية، ومن ثم بيع وتسويق الأسطوانات المدمجة (السي دي) وما رافقها من تغطية صحافية وإعلامية.

موت الألبوم كعبوة تسويقية للأغنية أو المعزوفة، بات من السهل التنبؤ به. مع الرقمنة Digitalisation، كانت بداية النهاية؛ بتحميل المئات من الملفات الصوتية المضغوطة mp3 على أجهزة إلكترونية سمعية كـ الآي بود iPod، التي أتاحت تعبئة المُفضّلات من المواد السمعية، ضمن لوائح لعب Playlist خاصة بكل مُستهلك أخذت تتجاوز نطاق الألبوم. 

مع بزوغ الإنترنت وظهور عديد منصات خدمة الرفع upload والدفق streaming، توسع نفوذ تلك اللوائح على حساب سيادة الألبومات، تصاحُباً مع قِصر أمد التركيز عامةً والاستماع خاصةً لدى أولئك الغرقى في بحور الإنترنت والسوشيال ميديا من جهة، ومن جهة أخرى، نمو ثقافة الشخصنة Personalising القائمة على نرجسية تفصيل الهيئة والمحتوى بحسب الرغبة customising. إذ إن كلَّ مستمع صار يصمّم ألبومه. كلٌّ يزرع في بستانه السمعي الخاص، على يوتيوب أو سبوتي فاي، من كل روضٍ زهرة.

أصبح الإنتاج الفني والموسيقي المنزلي هو الملاذ الوحيد بالنسبة للفنانين والمشاهير

موتٌ ثانٍ، عساه مؤقتاً، سبّبه كورونا، دهم اثنتين من الوسائل التقليدية لتسويق الألبوم؛ الحفلة الحيّة والجولة الفنية. ضرب الإقفال الذي عمّ كوكب الأرض بعرض الحائط كل جداول مواعيد الحفلات، التي عادة ما تضمن للفنان موسم تسويق جديد إصداراته وبيع عديد سي ديهاته. بحسب نجمة البوب الأميركية، آريانا غراندي، فإنه "لا جدوى ولا أمل من التخطيط لحفل موسيقي حيّ أو جولة فنية قبل حلول عام 2022". وعليه، لا فرصة حقيقية بتحقيق أيّ عوائد من بيع ألبوم بنسخته الصلبة؛ مسمارٌ آخر إذاً يُدق في نعشه. 

موت ثالث، كان يسري قبل كورونا، واليوم أخذ يجري متربصاً بالجودة الإنتاجية التي كفلتها وقامت عليها شركات إنتاج فنّي، من صغيرة إلى متوسطة الحجم، أو عملاقة تدعى بـ "علامة التسجيل" Recoording Label. حافظت تلك الشركات على الدوام على هيكل مؤسساتي من مقرّ صلب، سواءً للتسجيل أو للإدارة، وطاقم بشري من مهندسي صوت وفنيين، وفريق من المسوقين والمروجين والخبراء الماليين. شكّلت العلامات جسراً، من دون عبوره لا نجاح لأي فنان ولا صلة تصله بالسوق أو بالجمهور. أما اليوم، فقد أتاحت الطفرة التكنولوجية التي تمخضت عنها برمجيات التسجيل الموسيقي المنزلي، إمكانية شبه مجانية في متناول الكلّ، وإن على حساب النوع.   

مع تعطّل الحياة بمرافقها كافة، واحتجاز الناس داخل المنازل رهائن في قبضة كورونا، أصبح الإنتاج الفني المنزلي هو الملاذ الوحيد، ليس فقط بالنسبة إلى الفنانين دونَ مستوى الجماهيرية من بين الصابين إليها والصاعدين أولى درجاتها، وإنما حتى بالنسبة لأولئك المشاهير الذين رغبوا في ركوب موجة ما بات يُعرف بـ "زمن الفن الرديء"، في إشارةٍ إلى النصف جودة النسبية التي لا تزال تشوب على الأقل شكل الفن المنتج، في غرف الجلوس وعلى حواسيب محمولة. وذلك بالقياس إلى ما وفّرته المُعدّات الخفيفة والثقيلة التي امتلكتها الأستوديوهات. عينهم في ركوبهم على ما يُضفيه الاستوديو المنزلي Home Studio، على العمل الفني من عفوية ونفوذية تخترق البيوت وتكسر الحَجر.

ألبوم المغنية التجريبية الأميركية فيونا آبل Fiona Apple المعنون بـ Fetch The Bolt Cutters (ابحث عن قطّاعة الأقفال)، لهو أفضل مثال لهذا العام على "موسيقى كورونا"، إذ حوى على جميع مُميّزات المرحلة. إن كان لجهة اللغة الفنية أو الخطاب الاجتماعي. بدءاً بالعنوان، يستجيب الإصدار صراحةً لحالة العيش في ظل الإقفال، مُعبّراً عن التوق إلى الحرية وإلى استعادة الحياة الطبيعية.

من الناحية الفنية، يُعدّ الإصدار نموذجاً موسيقياً بديعاً للإنتاج المنزلي؛ إذ إن خيارات فيونا آبل الإبداعية، وتفرّدها في البعد عن المألوف السائد، قد جعل منزلها في لوس أنجليس يتجاوز مظهر الاستوديو الطارئ والارتجالي، ليغدو مختبر الصوت والعاطفة والفكرة زمنَ الأوبئة.

تُمثل أغنية الشابة اللبنانية شانتال بيطار المعنونة بـ "عم تخطر عبالي بالحجر الصحي"، محاكاةً عربيةً لموسيقى كورونا، ونسخة محلية من الإنتاج الموسيقي المنزلي. قبل الحجر، وعلى عكس فيونا آبل، قلما سمع أحدٌ خارج حدود لبنان بـ شانتال بيطار. من هنا، يبدو أن الأخيرة قد اجتازت اختباراً ناجحاً لإمكانية الانتشار عبر الإنترنت والصعود السريع على منصّات السوشيال ميديا، إن حالف المرء الحظ، وذلك في خضم الكم الهائل من المرفوعات. إلى جانب الحظ، فإن كلاًّ من إطلالة شانتال بيطار الجامعة ما بين الجمال والبراءة، ومن ثم صوتها الصادق والصافي، إضافة إلى كلمات الأغنية فيروزية اللغة والنبرة، قد زاد من جاذبية الأغنية وأكسبها القدرة على استمالة التعاطف.

بالعودة إلى المشهد العالمي من نافذة الموسيقى الكلاسيكية، التي يعد السماع الحيّ في صالات المسارح ودور الأوبرا السمة الأبرز لتذوّقها والاستغراق في أجوائها، فقد حال عديد وعتاد الفرق الأوركسترالية، دون إمكانية إنتاجها من البيوت، فلجأ القائمون عليها إلى البث الحي من الصالات وعبر الإنترنت.

أما على صعيد التشكيلات الأقل حجماً، والتي تنضوي ضمن فئة موسيقى الحجرة Chamber Music؛ فقد لجأ بعض النجوم بدورهم إلى جملة من المبادرات المنزلية، كعازف الكمان الجنوب أفريقي، دانيال هوب Daniel Hope، وبالتعاون مع شبكة آر ت يه arte التلفزيونية، إذ قام بتجهيز غرفة الجلوس في منزله بلواقط وكاميرات، ليقدّم منها، تحت عنوان هوب (وتعني أمل) في المنزل Hope@Home مقطوعات للكمان المنفرد، كما استضاف أسماء لامعة شاركته العزف والغناء.

مع كل ذلك، لا يبدو 2020  في غمار هذا الوباء، عام استحداث تبدلات جذرية بقدر ما هو عام استدراك إشارات كانت منذ أمد تلوح في الأفق، واستعجال تحولات كانت قد بدأت أصلاً ببداية الثورة البشرية الرابعة؛ أي ثورة المعلومات، التي شرعت إبان الألفية في سيرورة نعيٍ بطيء لوسائل إنتاج أمست قديمة ومعارف وخبرات بشرية، وأسواق مالية ومظاهر اجتماعية تمخضت عنها وارتبطت اقتصادياً بها. ثم أتى الفيروس، ليدفع بتلك السيرورة قدماً وبسرعة جنونية. أشكال الموت إذن، في هذا السياق التاريخي، ما هي إلا طقوس ولادة؛ فُرص إبداعية تُحفّز في الفنان ضرورات الخلق بغرض البقاء الفني والمادي، تلدُ حلولاً تواكب ممكنات العصر، ولن تزول بزوال كورونا.

المساهمون