موسيقى "غرايم": الجميع غاضبون جدّاً من هذا العالم

موسيقى "غرايم": الجميع غاضبون جدّاً من هذا العالم

26 فبراير 2021
يُعتبر ريتشارد كووي جونيور، المعروف بـ"ويلي"، الأب الروحي لهذه الموسيقى (Getty)
+ الخط -

من كراج إحدى البنايات المتواضعة في مناطق الطبقة العاملة في شرق لندن، تسلّلت موسيقى "غرايم" (Grime)، إلى بيوت الإنكليز. ورغم عدم ترحيب وتجاهل الإعلام للون الموسيقي الجديد، لكنه استطاع تحقيق نجاحات تخطت بلده، عابراً عدداً من بلدان العالم.

البداية تعود إلى أواخر التسعينيات أو أوائل الألفية الجديدة. وعدم الدقة في تحديد تاريخ ظهور هذا النمط يعود إلى أن هذا اللون من موسيقى "أندرغراوند" اتخذ أكثر من صورة، حتى استقر على ما هو عليه. بينما التسمية، "غرايم" (تعني بالعربية الوساخة)، ألصقها الإعلام غير المتحمس، ولم ينزعج منها مغنو اللون الموسيقي الشعبي ولا محبوه، فأغانيهم تتحدث بالفعل عن المناطق الفقيرة، وما يحاصرها من "وساخات" أخلاقية ومادية. كذلك اتسمت كلمات هذا النمط بالكثير من العنف والإيحاءات الجنسية.

تعود جذور اللون الموسيقي إلى الـ"ريغي" والـ"كراج" (UK garage) و"دانسهول"، إلى جانب تأثره بالـ"هيب هوب" والـ"راب"، حيث تتشابه أغاني اللون الشعبي الجديد مع النوعين الأخيرين، وإن تميزت بإيقاع أكثر سرعة، ولهذا بدا إيقاعها (140 دقّة في الدقيقة)، وما يصحبه من كلمات تلفظ بسرعة رهيبة، غريباً وغير مفهوم للكثيرين في البداية.

عن نشأة هذا النمط، يقول ريتشارد كووي جونيور، المعروف بـ"ويلي"، وهو منتج موسيقي ومغنّ وأحد مؤسسي الـ"غرايم"، إنه أراد صنع شيء جديد و"صوت أكثر برودة" مما قدمه So Solid Crew (فريق يقدم موسيقى الراب)، فابتكر عالماً صوتياً كاملاً، يتميز بأصواته الجهورية المدمرة، وإيقاعاته غير الملائمة، سمّاه "إسكيبات". وعندما طلب من ويلي شرح معنى الكلمة، قال إنها "تعكس ما يحدث في المجتمع، فالجميع غاضبون جداً من العالم ومن بعضهم بعضاً". ذاق من أقبلوا على هذه النكهة الجديدة طعماً مختلفاً، تشكلت مقاديره من "مناوشات للطبول وصوت عمود معدني أجوف يتدحرج حول ساحة بناء"، بحسب وصف تقرير لـ"غارديان".

أما ويلي، فقد باع من "إسكيبات" أكثر من 10 آلاف نسخة على أقراص فاينل، من دون ملصق عليها، أو منتج وموزع، أو حتى دعاية. أسس ويلي بعدها فرقة للون الموسيقي الجديد، سماه "رول ديب" (2001)، ضمت أسماء مثل: فلاودان (مارك فييرا)، بريز (إبراهيم علي)، برازين (أردوم علي)، مانغا (ماثيو ريد). وسبق هذا فريق آخر لويلي Pay As You Go، لم يطلق إلا ألبوماً واحداً عام 2001.

بحلول 2003، قفزت Grime قفزة واسعة مع ديزي راسكال، أحد أبرز مغني اللون الموسيقي، بجانب ويلي وستورمزي الحائز على جائزة ميركوري المهمة، وشهد هذا العام أيضاً إطلاق أول قناة فضائية لبث أغاني Grime، وكانت غالبية الكليبات المذاعة عبر الفضائية الجديدة من صنع هواة، ولا تغادر أماكن تصويرها عقارات وكراجات أصحابها.

واصلت "غرايم" تقدمها في هذه الفترة، فتصدرت إحدى أغنياتها (إلى الأمام) لليثال بيزل، كواحدة من أفضل 20 أغنية في المملكة المتحدة عام 2004. تقول الأغنية: "نعم، نعم/ أنا ليزل بيزل/ إذا كنت لا تعرفني اسأل شخصاً عني بسرعة/ نعم أنا، نعم/ أنت تنبح على الشجرة الخطأ/ سأكسر جمجمتك/ سأتركك مضطرباً على كرسي متحرك/ إذا حاولت أن تصطدم مع هذا النسيم الشيطاني". هذا العنف في الأغنية رشحها لأن تصبح الأغنية الرسمية لاحتجاجات الطلبة عام 2010، لكن نجاحها الكبير، من جهة أخرى، كان وبالاً على مسيرة الموسيقى الشعبية.

تسببت الأغنية، مثلما زعمت الصحافة حينها، بمشاجرات في عدد من النوادي الليلية، ليمنع عدد كبير منها الأغنية، ولم يعد متاحاً لصاحبها، ليزل بازل، ارتياد تلك النوادي لمدة تخطت العام. كما واجه أغلبية مغني "غرايم" تضييقاً عليهم، خاصة بعد سلسلة من حوادث إطلاق النار في النوادي، ربطها البعض بأغانيهم، لتفرض الشرطة الإنكليزية عدداً من الضوابط، وصفت بالعنصرية، وبأنها تستهدف مجموعات معينة على رأسها مغنو "غرايم".

نتيجة لذلك، تأثرت شعبية هذا النمط الموسيقي، وتراجع معدل انتشاره، وانعكس هذا في تصريح لليزل بيزل في ما بعد، عبّر فيه عن فداحة ما ألحقته الإجراءات الحكومية بالـ"غرايم" ومسارها؛ فأشار المغني البريطاني إلى أن ما حدث أجبر منتجي الموسيقى على الانتقال "من صنع موسيقى خصيصاً للأندية إلى صناعة موسيقى من أجل الاستماع إليها في المنزل"، وواكب ذلك صعود أنواع أخرى، مثل "دبستيب" و"يو كي فانكي"، وهما نوعان من الموسيقى الراقصة.

بدا للجميع أن الـ"غرايم" تعود مجدداً إلى تحت الأرض. لكن، رغم هذا الحصار، استمر فنانو اللون الشعبي في الترويج لموسيقاهم عبر محطات إذاعية غير مرخصة، وأسطوانات "دي في دي"، ثم بدأت "غرايم" تتلمس طريقها إلى الصعود مجدداً في 2008، عندما حققت أغنية Dance Wiv Me، من ألبوم Tongue 'N' Cheek لديزي راسكال، نجاحاً كبيراً، فاحتلت المركز الأول في الأغاني الفردية على مستوى المملكة المتحدة لمدة أربعة أسابيع، والمركز الـ12 في قائمة الأكثر مبيعاً. لكن لم يستمر هذا النجاح، رغم صدور خمس أغان منفردة في 2009، لثلاثة من أبرز نجوم غرايم: ديزي النذل، وتشيني سترايدر، والسنجاب.

شهدت السنوات الأربع التالية انحساراً لموسيقى "غرايم"، ثم جاء عام 2014 بصحبة أغنية German Whip أو "السوط الألماني" (والمقصود بها السيارة المرسيدس)، لميرديان دان وبيغ إتش وجاي إم أي، فاستعادت "غرايم" قدرتها على منافسة الأنواع الموسيقية الأخرى، حينما قفزت إلى المركز الـ13 في تصنيف الأغاني الأفضل في إنكلترا.

ولا تذهب كلمات الأغنية أبعد من أنها تحتفي بالسيارة المرسيدس، أو السوط مثلما يسميها مغنو "غرايم". وترجع التسمية إلى أن عربات الخيل، في الماضي، كانت تستخدم السياط للتحكم في الاتجاهات والسرعة، وعند ظهور السيارات ومقودها، أُطلق عليه (أي المقود) اسم السوط، باعتباره يقوم بالمهمة ذاتها، ثم أسقط مغنو "غرايم" التسمية على المرسيدس، خاصة بما أن علامتها تأخذ شكل المقود.

تتابعت نجاحات "غرايم"؛ فاحتل ألبوم "استديو"، للمغني سبيكتا، المركز الثاني في 2016، وحاز على جائزة ميركوري، بينما حصل المغنى ستورمزي على المركز الأول في 2019، وشارك في العام نفسه في مهرجان "غلاستنبري" كأول فنان بريطاني أسود يتصدر الفاعلية الموسيقية الأهم في إنكلترا. استكملت "غرايم" بنجومها وحفلاتهم حكايتها خارج إنكلترا، في بلدان مثل كندا والصين ونيوزيلاندا واليابان وأستراليا، بعدما أمسى للون الموسيقي جمهور في هذه البلدان، وصار لكل منها موسيقى "غرايم" خاصة به.

من جهة أخرى، تتشابه قصة "غرايم" إلى حد بعيد مع موسيقى المهرجانات المصرية، سواء من خلال نوعها، فهي أيضاً مزيج من الراب والتكنو، أو عبر انطلاقها من الأحياء الفقيرة، أو حتى طريقة إنتاجها، أي الاعتماد على معدات بسيطة. ومثل "غرايم"، تجاهلها الإعلام، وازدراها كثيرون، إلى أن أتاحت لها منصات التواصل الاجتماعي الفرصة للوصول إلى جمهور أوسع بعد سنوات من الإهمال والرفض.

هذا التشابه، وفّر فرصة لتلاقي النمطين الموسيقيين من خلال تعاون مشترك، في نهاية عام 2017، بين محطة إذاعية إنكليزية Rinse FM (من أبرز إذاعات اللون الموسيقي الشعبي، تأسست سنة 1994 لكنها لم تحصل على الرخصة الرسمية إلا في 2010)، واستديو "100 نسخة" المصري. انطلق المشروع بدعم من "المجلس الثقافي البريطاني"، ليقدم الطرفان عدداً من الحفلات المشتركة الناجحة في لندن على مدى أسبوع، وكان من نجوم "المهرجانات" المشاركين سادات وفرقة "المدفعجية"، ومن مغني "غرايم" "إيه إل إيه إيه 50" و"صدام دي جي".

قال آرثر سميث، وهو موزع موسيقي بريطاني وأحد المشرفين على المشروع الغنائي: "أعجبتني الفكرة من البداية، أن تتفاعل مع موسيقى لا تعرف عنها شيئاً. كنا نبدأ بالتلحين ويقترح الطرف المصري استبدال صوت طبلتنا بنغمة من موسيقاهم؛ لأفاجأ بأن أغنيتنا انتهت إلى أن تكون مثل موسيقاهم تماماً".

أما الجانب المصري، الذي مثله استديو "100 نسخة"، فقال مديره محمود رأفت، وقتها: "عندما عملنا مع الموسيقيين البريطانيين اكتشفنا إلى أي مدى تتشابه موسيقى غرايم مع المهرجانات؛ فدفعنا هذا إلى التفكير في مشروع موسيقي يمكن أن ننجزه مستقبلاً، لنشارك به في الفعاليات الدولية".

عبّرت مسيرة "غرايم" عن شخصية موسيقاها، فجاءت مسيرة غير تقليدية لموسيقى وصفها مدير وحدة أبحاث الموسيقى السوداء في "جامعة وستمنستر" بأنها "التحول الثقافي الأكثر اضطراباً في صناعة الموسيقى البريطانية منذ الـ(بانك)"، ومن أهم الأسماء اليوم في عالم الـ"غرايم" هم سبيكتا، وجيم، وغيتس، وستورمزي، وباغزي مالون، وتشيب، وبالطبع ويلي الذي يوصف بأنه الأب الروحي لهذا النمط الموسيقي، إلى جانب فرق مثل: "الشوارع"، و"بوي بيتر"، و"نيوهم جينرال".

المساهمون