مهرجان القلعة للموسيقى... القاهرة في مختبرها الغنائي

29 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 10:24 (توقيت القدس)
مدحت صالح في حفله ضمن المهرجان (صفحة الفنان على فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اختتم مهرجان القلعة للموسيقى والغناء في دورته الثالثة والثلاثين بتنوع في الأداءات بين الطرب التقليدي والأنماط المعاصرة، حيث برز مدحت صالح وإيهاب توفيق في الطرب الكلاسيكي، بينما قدم مصطفى حجاج وخالد سليم الأغاني الخفيفة ذات الطابع الغربي.

- أضاف ياسين التهامي بُعدًا روحانيًا بتقديم وصلة صوفية تفاعلية، بينما قدمت فرقة "وسط البلد" موسيقى هجينة تجمع بين الروك والجاز والتراث المحلي، مما يعكس هوية حضرية مستقلة.

- يُعتبر المهرجان حدثًا موسيقيًا واجتماعيًا يعيد الفن إلى المجال العام، لكنه يواجه تحديات مثل ضعف أنظمة الحجز وقصر مدة الفعالية، مما يحد من تأثيره الثقافي.

اختتمت السبت الماضي فعاليات مهرجان القلعة للموسيقىوالغناء في دورته الثالثة والثلاثين في القاهرة، وأُسدل الستار على واحد من أكبر الفضاءات الغنائية المفتوحة في مصر. وبعدما هدأت أصوات المطربين وخلت المدرجات الحجرية من جمهورها المتنوع، لم يعد المشهد بحاجة إلى وصف احتفالي بقدر ما يحتاج إلى قراءة تكشف دلالات ما جرى فوق الخشبة: أيّ مدارس غنائية تقدمت، وأيّها تراجع؟ وكيف تشكّل المشهد الطربي بين الذكريات والروحانية والبحث عن الجديد؟

مع انتهاء المهرجان، تتبدى الصورة كاملة بعيداً عن الانفعال اللحظي، وتُصبح الموسيقى مرآة صافية لأسئلة أعمق حول واقع الغناء المصري وموقعه في مسار التحولات العربية، لا سيما بعد أن أصبح مهرجان قلعة صلاح الدين مختبراً يعرف فيه الصوت المصري حدود حضوره، وتتصارع فوق خشبته أنماط غنائية تكشف ملامح التحول في الغناء المصري المعاصر. يساعد جدول البرنامج على قراءة بانورامية لراهن الغناء، إذ تتجاور الأجيال والمدارس، وتختلف الصيغ والتوجهات.

لا يزال مهرجان القلعة يكرّس حضور الأصوات التي تمثّل الامتداد المباشر للطرب المصري التقليدي. فمدحت صالح، على سبيل المثال، يراهن على ثراء مخزونه العاطفي وقدرته على التحكم في المقامات الشرقية، لكنه يظل أقرب إلى إعادة إنتاج المألوف أكثر منه ميلاً إلى مغامرة التجديد. يحب صالح تقديم نفسه بوصفه المطرب القادر على تقديم تقنيات مقامية شرقية، مع خبرة طويلة في توظيف المخزون العاطفي الذي يستدعي ذاكرة الطرب الكلاسيكي. لكن هذه القوة لا تنعكس غالباً في مسارات تجريبية جديدة، بل تُترجم إلى إعادة إنتاج للأغنية المألوفة التي تحفظها الأذن المصرية منذ عقود. هنا، يصبح الأداء قائماً على استعراض المهارة أكثر من البحث عن أفق جديد، فيتحول "التمكّن" إلى وسيلة لتثبيت صورة الطرب التقليدي بدل أن يكون أداة لتطويره.

ولم يكن إيهاب توفيق بعيداً عن هذه المنطقة؛ فرغم ما يبدو من اختلاف، قدم توفيق صورة راسخة للنجم الشعبي الرومانسي، واحتفظ بخصائص الأغنية التي صنعت نجوميته في التسعينيات. اختياراته الغنائية، في القلعة وخارجها، لا تُخفي نزعته إلى تثبيت تلك الصورة القديمة، إذ يظل وفياً للأغنية العاطفية ذات البناء اللحني البسيط واللوازم الشرقية المألوفة، فهذه الاستمرارية تمنحه ثقة جمهور يحنّ إلى فترة زمنية بعينها، لكنها تكشف أيضاً عن افتقار إلى التجريب أو إلى إعادة تعريف موقعه الفني في الزمن الحالي.

يمكن للنقد أن يرمي بالكرة في ملعب الجمهور، الذي يرغب في إعادة الاستماع إلى المألوف، ويرى أن حضور "الماضي" باعتباره مرادفاً لقوة الذاكرة الجمعية، يخلق حالة جماعية من الحنين، لا تسمح بظهور مسار تطوري جديد، أي أن "الماضي" أصبح هو المرجعية الأساسية التي يتكئ المشهد الموسيقي المعاصر عليها، ليتحول إلى مرادف للثبات وإعادة التدوير من المغني وتكرار الاستهلاك من الجمهور. لكن جمهور مهرجان القلعة لا ينتمي إلى ذوق غنائي واحد، وإذا كان صالح وتوفيق وجدا من رواد القلعة قطاعاً يحب استعادة الماضي واجترار المألوف، فإن قطاعات أخرى ليست قليلة بحثت عن أداءات تعكس روح الحاضر بكل ما فيه من تسارع إيقاعي وتبسيط لحنـي، وقد توجه هؤلاء إلى حفلي مصطفى حجاج ثم خالد سليم بحثاً عن ملامح الأغنية المصرية في ثوبها المعاصر، ووجدوا بغيتهم في ألحان تقوم على سرعة الوصول إلى الأذن، بدعم إيقاعات واضحة وتوزيع غربي الطابع، ينجح في صناعة جاذبية لحظية.

قدم مصطفى حجاج نفسه في صورة المطرب الذي يمتلك صوتاً مفعماً بالطاقة والقدرة على السيطرة على الجملة الغنائية القصيرة، ما يجعله مناسباً للأغنية الخفيفة التي تقوم على إيقاع واضح وجملة مباشرة. قوته تكمن في الأداء اللحظي الذي يرفع منسوب التفاعل الجماهيري بسرعة، لكنه في الوقت نفسه يظل أسير خطاب غنائي محدود، يكرّس فكرة الأغنية السريعة التي لا تطمح إلى التأسيس لمسار طربي أو مقامي متطور. حضور حجاج على مسرح القلعة يكشف هذه المفارقة: كيف يمكن لصوت قوي أن يظل أسير قوالب بسيطة لا تمنحه مساحة لتجريب أوسع؟ الجمهور تجاوب معه بحماسة، لكن الحماسة هنا مرتبطة باللحظة الإيقاعية، أكثر من ارتباطها بعمق التجربة.

مثّل خالد سليم حالة أكثر التباساً. صوته مدرَّب وقادر على التعامل مع مساحات لحنية أوسع من تلك التي يقدّمها عادة، لكنه اختار أن يبقى ضمن قوالب البوب الرومانسي الخفيف، معتمداً على توزيع غربي الطابع يخفي أحياناً بعض ميزاته الصوتية. بدا حضور سليم في القلعة كأنه رهان على النجومية أكثر من كونه رهاناً على تطوير خطاب موسيقي جديد. هذه المفارقة تبقيه مطرباً ناجحاً جماهيرياً، لكنه غير قادر حتى الآن على تحويل هذا النجاح إلى مشروع فني يضيف إلى مشهد الغناء المصري. وكأنّ صوته أكبر مما يتيح اختياره الفني.

تفتح تجربة مصطفى حجاج وخالد سليم في مهرجان القلعة باباً لسؤال نقدي أعمق: هل تستطيع الأغنية الخفيفة التي ترتدي ثياب البُوب أن تصمد أمام رهبة الفضاء التاريخي الذي يقام فيه المهرجان؟ إن القلعة ليست مسرحاً عادياً، إنّها رحاب أثري مثقل بحمولة رمزية وازنة، تجعل الجمهور يتلقى الغناء بوعي مختلف، تبدو فيه الأغنية السريعة أقرب إلى لحظة احتفالية عابرة، بينما يميل الطرب أو الإنشاد إلى ترك أثر أعمق وأطول عمراً. من هنا، تكشف تجربة حجاج وسليم عن حدود الأغنية المعاصرة في مصر: قدرتها على صناعة جاذبية لحظية لا يرقى بها السياق إلى مستوى التجربة الفنية الممتدة. وهي حدود تضع المهرجان في موقع النقد، ليس بوصفه مجرد منصة عرض، بل باعتباره فضاءً يختبر قدرة كل صوت وكلّ خطاب غنائي على التكيّف مع سياق ثقافي وتاريخي أكبر منه.

مع حفل الشيخ ياسين التهامي يتبدّل منطق التلقي نفسه. فما يسمعه الجمهور ليس "أغنية" مكتملة البنية، وإنّما هي صيغة أدائية مفتوحة تُشبه "وصلة" صوفية تتدرّج من التمهيد المقامي القصير إلى الموال فالقصيدة، مروراً بمحطات ارتجالية تُنظّمها حساسية لحظية لنبض الجمهور. يفتتح التهامي عادةً بتثبيت المقام على مساحة صوتية متوسطة، كأنه يضبط مزاج الحضور قبل أن يشرع في توسيع المدى اللحني والنفَسي. في هذه اللحظات الأولى، تتحدد علاقة السامع بالمقام، فيدخل في مداه خطوةً خطوة، ليصبح الانتقال بين الجُمل نتيجة تفاعل حيّ مع ردات الجمهور وتدفّق الإيقاع. يتعامل التهامي مع المقامات باعتبارها بنية أساسية توفّر أرضية مألوفة تُطمئن الأذن، ثم تأتي التحويرات بوصفها تأويلاً للنص وليس مجرد تبديل لوني. يدير التهامي تفاعله مع الفرقة والجمهور بمنطق النداء والجواب؛ ردّات "الله"، و"مدد"، و"حي" تُستدعى لخلق التفاعل ولضبط الإيقاع الجمعي وتكثيفه. الآلات، كالكولة والناي والمزمار والطبلة والرق، تصنع طبقاتٍ إيقاعية تُراكم التوتر ثم تُحرّره في لحظة انكشاف صوتي تُقابَل عادةً بهتاف جماعي. هذه العلاقة الدائرية بين المُنشِد والفرقة والجمهور تولّد ما يُعرف بـ"الطرب الروحي" الذي يمثل وجداً جماعياً يتأسس على المشاركة الإيقاعية والنصية.

وفي فضاء مهرجان القلعة تكتسب تجربة ياسين التهامي بعداً إضافياً. تاريخية الموقع وهيبته تفرض إصغاء أعمق. هذه الأجواء تمنح التهامي نفاذاً مؤكداً إلى وجدان الجمهور، لأن خطاب وصلته قائم على التراكُم وليس على "اللقطة"، وعلى البناء المقامي الطويل لا اللازمات السريعة. لكن هذه الوصلة تواجه أيضاً تحدياً إنتاجياً، فأيّ خلل في ضبط الصوتيات قد يُربك علاقة الطبقات الصوتية، وأيّ مبالغة توزيعية قد تنتقص من قيمة الارتجال. حين تُحترم شروط السماع – وضوح المدى المتوسط، فسحةٌ للهواء بين الآلات، وتوازنٌ يسمح بالهتاف الجماعي من دون أن يطغى – يُظهر الإنشاد الصوفي قدرته على تحويل حفلة مهرجانية عامة إلى تجربة سمعية ذات عمقٍ تعبّدي، من دون أن تغادر إطارها الفني.

ومقارنة بتيار الطرب الكلاسيكي الذي مثّله مدحت صالح أو إيهاب توفيق، تتضح فرادة تجربة التهامي. فالأولان يقدّمان الطرب باعتباره صنعة متقنة، تُقاس عناصرها بمستوى التحكم في المقام، وجودة الأداء الصوتي، وحضور المخزون اللحني الذي يستدعي الذاكرة الغنائية للمستمع. بينما التهامي يذهب في اتجاه مغاير، إذ لا يقدّم الطرب تقنيةً أو حرفةً غنائية، بل مساراً روحياً مفتوحاً لا تُقاس قيمته بمهارة فردية، وإنما بالقدرة على إحداث انخطاف جماعي. في حين يقوم الطرب الكلاسيكي على استدعاء اللذة الجمالية في لحظة طربية فردية، ينزع الإنشاد الصوفي عند التهامي إلى خلق حالة وجدانية جماعية، تجعل الجمهور شريكاً في التجربة وليس مجرد متلق.

حين تظهر فرقة "وسط البلد" على خشبة مهرجان القلعة فإنها لا تدخل في منافسة مباشرة مع أصوات الطرب الكلاسيكي أو مع تجليات الإنشاد الصوفي، بل تقدم خطاباً مختلفاً ينتمي إلى المدينة الحديثة بتناقضاتها وتوتراتها. ما تفعله الفرقة هو كسر الثنائية التقليدية بين "التراث" و"المعاصرة"، لتصوغ موسيقى هجينة تستلهم إيقاعات الروك والجاز، لكنها لا تنفصل عن الموروث المحلي في الجملة اللحنية أو في النصوص الغنائية التي تعبّر عن حياة يومية مأزومة، عن الشارع والحيّ العشوائي والذاكرة الشعبية. بهذا المعنى، فإن "وسط البلد" لا تستدعي صورة "الماضي" كما يفعل الطرب، ولا تنحاز إلى خفة البوب التجاري كما يفعل الجيل الجديد، بل تقترح تصوراً ثالثاً يحاول أن يمنح الموسيقى المصرية المعاصرة هوية حضرية مستقلة.

من اللافت في "وسط البلد" أن الأصوات الفردية داخلها تعتبر جزءاً من نسيج جماعي يُبنى على الحوار بين الغناء والآلات. السرد الغنائي فيها لا يقوم على الاستعراض الصوتي أو على البحث عن اللحن الطربي الطويل، لأنه يميل إلى ديناميكية الأداء المشترك التي تمنح الأغنية شكلاً أقرب إلى الحكاية أو المشهد الدرامي. هذه الخاصية تتيح للجمهور في مهرجان القلعة أن يختبر نوعاً مختلفاً من التلقي يوازي بين المتعة السمعية وبين إدراك أن ما يُقدَّم على الخشبة ليس مجرد أغنية، بل خطاب موسيقي عن المدينة نفسها. لذلك، فإن "وسط البلد" تُمثل في المهرجان لحظة كاشفة عن إمكان صياغة موسيقى مصرية جديدة لا تنغلق على التراث ولا تذوب في البوب الغربي، بل تسعى إلى بناء "هوية هجينة" تُحاكي التحولات الاجتماعية والثقافية وتُعطي للغناء دوراً سردياً يتجاوز الترفيه إلى التعبير عن الذات الجماعية في لحظتها الراهنة.

مثّل مهرجان القلعة دائماً حدثاً موسيقياً وتجربة اجتماعية تُعيد تعريف علاقة الفن بالمجتمع. كونه يُقام في فضاء أثري مفتوح يعني أن الموسيقى تُعاد إلى المجال العام، لا تُحاصر داخل القاعات المغلقة. حضور آلاف المتفرجين بأسعار رمزية يكسر الحاجز الطبقي، ويجعل الثقافة متاحة للجميع. هكذا يصبح المهرجان أداة لإعادة توزيع الثقافة، وتجسيداً لفكرة أنّ الفن الراقي ليس حكراً على النخب.
رغم نجاح المهرجان في توسيع قاعدة الجمهور وإعادة الفن إلى المجال العام، فإنّ هناك عقبات تحدّ من أثره: ضعف أنظمة الحجز الحديثة، محدودية الانفتاح على تجارب موسيقية عالمية، وبقاء المهرجان فعالية موسمية قصيرة في حين أنّ المجتمع بحاجة إلى أنشطة ممتدة طوال العام. هذه التحديات تجعل من المهرجان تجربة ناجحة لكنها غير مكتملة.

المساهمون