من بروكسل إلى بيروت: تكثيفٌ درامي وأداءٌ واقعي

من بروكسل إلى بيروت: تكثيفٌ درامي وأداءٌ واقعي

13 نوفمبر 2020
"بروكسل ـ بيروت": لماذا العودة وإلى أين؟ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

"بروكسل ـ بيروت" (2019، فرنسا، 27 دقيقة)، لثيبو ولفارت وسمير يوسف، يجمع في نصّه تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، المستمرّة في تأثيراتٍ مباشرة ومتنوّعة على لبنانيين كثيرين بوسائل وأساليب وتصرّفات جمّة، وراهنٍ متوتر ومضطرب ومُقْلِق، تُعانيه جماعات مختلفة تُقيم في ما يُشبه العزلة الجغرافية، تبدو كأنّها غير معنية بحضور سلطة غارقة في مصالحها وهواجسها وأعمالها غير المهتمّة بناسها، وبعض ناسها ينعزلون جغرافياً، فيكونون أسياد نفوسهم وبيئاتهم الضيّقة.

التكثيف الدرامي لحكاية زياد (رضا فوّاز) يعكس تفاصيل عيشٍ يومي في ريفٍ ينغلق كثيراً في عزلته. عودته إلى قريته تهدف إلى زيارة أمٍّ (عايدة صبرا) وشقيقٍ (إيلي نجيم)، لإخبارهما بأنّه سيُصبح أباً في وقتٍ قريبٍ، وإلى اطمئنانٍ على حالةٍ غير سليمة تتخبّط فيها أمٌ أرملة، وشقيقٌ يغرق، أكثر فأكثر، في خرابِ بلدٍ، يبدو أنّ خروجهما (البلد والشقيق) منه (الخراب) شبه مستحيل.

رامي (نجيم) منهمك في تأمين حماية ذاتية لبلدته الريفية، فعناصر "داعش" منتشرون في أنحاء محيطة بها، بالإضافة إلى أنّ الحدود الجغرافية بين لبنان وسورية، في مواقع كهذه، واهيةٌ للغاية، والحرب مندلعة في البلد المجاور، والهاربون منها يريدون خلاصاً يظنّون أنّه موجودٌ في الجوار. وفرة المعطيات غير مانعةٍ النصّ السينمائي من سرد حكاية زياد، ومعها/ عبرها حكاية بلدٍ وأفرادٍ وانهيارات شتّى. الوحش ـ المصنوع في حربٍ أهلية غير منتهية، يُبلوره سلمٌ هشّ وناقص يُشبه، إلى حدّ بعيد، تلك الحرب غير المنتهية ـ يختبئ في ذاتٍ وروحٍ، كاختباء تفكيرٍ متوارثٍ لن تستأصله غربة وعلاقات جديدة وأنماط عيشٍ وتفكير مختلفة.

تفسيرات كهذه لن تحول دون مُشاهدةٍ مطلوبة لـ"بروكسل ـ بيروت"، المُشارك في الدورة الـ4 (31 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) لـ"مهرجان الفيلم اللبناني في كندا" (بعد مشاركته في مهرجانات عدّة، منذ انتهاء إنتاجه قبل أشهرٍ مديدة). الزيارة غير المتوقّعة (أو هكذا توحي البداية) لزياد دعوة إلى اختراق عوالم تُشكِّل جزءاً من وقائع بلدٍ، مرفوضةٌ قيامته من موتٍ دائم. الانغلاق ـ بحجّة الحماية الذاتية من أغراب وأصوليين ـ سمة محلية يتأصّل حضورها، يوماً تلو آخر، في وجدان أفرادٍ وعقلِ جماعات. السلاح عاديٌّ، فالسلطة ـ بما يُفترض بها أنْ تكونه كدولة في وطن ـ غائبةٌ في خرابها المدوّي، وإنْ ينفضّ النص السينمائي (سيناريو ثيبو ولفارت وسمير يوسف) عن قول هذا، فالمسار الحكائيّ، المُضافة إليه مسالك أناس وحركاتهم ونظرتهم إلى حالةٍ ومناخٍ، كفيلٌ بقول غير المنطوق به مباشرة.

 

المصائب عدّة في عائلة زياد. الأم أرملة، وابنها المُقيم معها مشغولٌ بمواجهة "أعداء"، فيرتدي زيّاً عسكرياً، ويحمل سلاحاً مع رفاق سلاح. زمن "داعش" في لبنان قريبٌ جداً (2017)، وإنْ تفصله عن النهاية المزعومة للحرب الأهلية أعوامٌ أطول. الارتباك حاصلٌ في عيشٍ يومي في بلدة ريفية، كما في نفسِ أمٍّ وذاتِ ابنٍ غير متوافِقَين أحدهما مع الآخر، كما يوحي السرد الحكائيّ، لانشغالِ الابن بمتطلّباتٍ خارج العائلة، ولقلقِ الأم على اضطراب العائلة بداخلها. الوحش يخرج، ذات لحظة، من داخل زياد، رغم انكفائه السابق عن كلّ عنفٍ، فالعائلة أهمّ، وكلّ خارج يُمنَع من المسّ بها. أمْ أنّ عنفَ زياد منبثقٌ من ضغطٍ وثقلٍ وتساؤلات غير مالكةٍ إجاباتٍ واضحة، يحملها ويعيشها في غربته؟

"عليكَ بالرحيل"، يقول رامي لزياد (بالعاميّة اللبنانية) أثناء إيصاله إلى مدخل القرية، فجر اليوم التالي لوصوله. نظرة الأم إلى ولديها في تلك السيارة، الأشبه بآلية عسكرية، تُزيد القلق قلقاً، والألم ألماً، رغم ما تُظهره النظرة من دهشةٍ أو عدم تصديق أو انعدام فهم ما يحصل. تفسير المشهد الأخير غير مناقضٍ لمُشاهدة متحرّرة من كلّ توضيح. أداء عايدة صبرا، في لقطاتٍ قليلة، كفيلٌ بإثارة بعض متعٍ من المُشاهدة. صمتها أقسى، والارتباك الحادّ في ذات رامي يمنحه إيلي نجيم، بتمثيله، غلياناً يتوافق وقلق شابٍ يريد إجابات عن أسئلة هجرة وخلاص وهروب وبقاء وتواصل وعزلة. متاهة زياد بين عودة مفعمة بفصلٍ جديدٍ في حياته (تحوّله إلى أبٍ) وواقعٍ غير متبدّل في بلدٍ، يزداد انهياراً وموتاً ودماراً، تنكشف في تحوّل هادئ يؤدّيه رضا فوّاز بسلاسة وواقعية.

وإذْ ينتقل الوقتُ سريعاً من نهارٍ إلى ليلٍ ثم انبثاق فجرٍ جديد، يتوغّل التصوير (مديرة التصوير: فيونا بْرَايّون، مونتاج صورة: فرجيني مسِّيَان) في كشف مناخ بيئة وذوات أفرادها، باعتماد ألوانٍ تتلاءم وصفاء صيفٍ ريفيّ، قبل حلول ليلٍ دامسٍ تكاد الملامح كلّها تختفي فيه. هذا يترافق واشتغالٌ سلسٍ للصوت (هندسة الصوت: سِدريك كايان، ميكساج: ماثيو كوكس)، يلتقط نبض المكان وأنفاس الروح وارتباكات الحالة.

قصّة واقعية مكتوبة بسلاسة وهدوء، رغم كلّ ارتباك وضياع وفوضى وانشقاقات، في بلدٍ منذور لخرابٍ مدوٍّ ودائم، ولأناسٍ مشحونين بالتباس حربٍ غير منتهية، وقسوة راهنٍ مفتوحٍ على احتمالات غير متوقّعة، فردياً وجماعياً.

المساهمون