منصات الموسيقى... خريطة رأس المال ودعم دولة الإبادة

22 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 06:39 (توقيت القدس)
فرقة كينغ غيزارد الأسترالية انضمت إلى حملة مقاطعة "سبوتيفاي" (بيدرو غوميز/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تحولت صناعة الموسيقى إلى منصات رقمية مثل "سبوتيفاي" و"ديزر"، التي أصبحت أدوات اقتصادية وسياسية تتحكم في التدفق الموسيقي العالمي وتراكم بيانات المستخدمين، مما يربط الموسيقى بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.

- تورطت "سبوتيفاي" في دعم الحروب من خلال استثمار رئيسها التنفيذي في شركة عسكرية، مما أثار جدلاً واسعاً وانتقادات حول ازدواجية مواقفها في النزاعات الدولية.

- برزت "أنغامي" كمنصة موسيقى عربية كبرى، لكنها تواجه تحديات تتعلق بعلاقتها بالملف الفلسطيني ووجود محتوى إسرائيلي، مما يثير تساؤلات حول استقلاليتها السياسية.

لم تعد صناعة الموسيقى في العقدين الأخيرين مقتصرة على إنتاج الألبومات والأغاني، بل تحولتلمنصات رقمية عملاقة، مثل "سبوتيفاي" و"ديزر" و"آبل ميوزك"، إلى أدوات فعل اقتصادي وسياسي عابر للحدود؛ فمنذ صعود "آي تيونز" مطلع الألفية، وصولاً إلى العقد الثاني من القرن الحالي الذي ترسّخت فيه هيمنة خدمات البثّ، لم تعد هذه الشركات مجرد موزّع ثقافي، بل باتت بنى تحتية رقمية تتحكم بالتدفق الموسيقي العالمي وتراكم بيانات المستخدمين. وهذا التحول كان من شأنه جعل الموسيقى جزءاً من شبكة أوسع ترتبط بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والمال، وفي حالات كثيرة بميادين الحروب.
ظهر هذا التشابك بوضوح مع بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، لينكشف معها من اصطفافات سياسية، واستثمارات قوى مالية نافذة في الحرب. ففي يونيو/حزيران الماضي، أعلن الرئيس التنفيذي لمنصة سبوتيفاي، دانييل إك، عن استثمار ما يقرب من 600 مليون دولار في شركة Helsing السويدية، وهي شركة ناشئة متخصصة في تطوير برمجيات عسكرية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لدعم ما تسميه بـ"الجيوش الديمقراطية".
لعبت الشركة دوراً في الحرب الروسية – الأوكرانية؛ إذ وفرت برمجيات لتحليل البيانات الميدانية لحظياً، وأنظمة للطائرات المسيّرة، ودعمت أنظمة قتالية برية وبحرية وجوية، مع تركيز خاص على الحرب الإلكترونية والتعرف على الأهداف.
لكن ما جعل استثمار إك مثيراً للشبهات، أن الجولة التمويلية التي قادها، رفعت القيمة السوقية لـHelsing إلى نحو 12 مليار يورو، وجعلته رئيس مجلس إدارتها وليس مجرد مستثمر فيها. وبعد انسحاب فرق موسيقية عدة من "سبوتيفاي،" وانتشار حملات المقاطعة التي شملت الفرقتين الأميركيتين Xiu Xiu وDeerhoof والفرقة الأسترالية King Gizzard، أعلن إك أن قراره هو نوع من الاستثمار في "أمن الديمقراطيات الأوروبية" في ظل ما وصفة بـ"التهديدات العالمية"، لكن كثيراً من الفنانين والناقدين رأوا في ذلك ازدواجية صارخة، معتبرين أن ثروته التي راكمها من الموسيقى والتي وصلت إلى 3.4 مليارات جنيه إسترليني يعاد توجيهها الآن إلى صناعة السلاح.
المفارقة أن هذه الأزمة جاءت بينما كانت "سبوتيفاي" تحاول رسم صورة إنسانية لها في الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ علّقت نشاطها في روسيا، وقلّلت ظهور محتوى روسي رسمي، أما على المقلب الآخر في حرب غزة، فاقتصر موقفها على عبارات تعاطف عامة من دون إدانة واضحة، بل وصل الأمر إلى إزالة أغنية "دمي فلسطيني" لمحمد عساف بعد ضغوط منظمة نؤمن بإسرائيل، أعلنت أنها تنسّق خطواتها عن كثب مع السفارة الإسرائيلية في لندن.
تورُّط منصات موسيقية في دعم الحروب لم يعد مجرد موقف علني أو إعلان صريح وواضح عن السياسة التي تقف خلفها أيديولوجيا رأس المال؛ ففي مايو/أيار 2024، وبعد مرور ما يقرب من ثمانية أشهر على بدء حرب الإبادة في غزة، كشفت واشنطن بوست استناداً إلى تسريبات من مجموعة دردشة على تطبيق واتساب، أن مجموعة من رجال الأعمال النافذين حثّوا عمدة نيويورك، إريك آدامز، على استخدام الشرطة لقمع اعتصامات طلاب جامعة كولومبيا المؤيدة لفلسطين، لم يكتفِ هؤلاء المليارديرات بتمويل حملة العمدة، بل عرضوا دفع تكاليف محققين خاصين لتفكيك الاحتجاجات.
التسريبات ضمت أسماء شهيرة ولها ثقلها في عالم الاستثمارات، ومن هؤلاء هوارد شولتز (ستاربكس)، ومايكل ديل (ديل تكنولوجيز)، وجوشوا كوشنر شقيق جاريد كوشنر، ودانيال لوبيتزكي، ودانيال لوب، وجوزيف سيت.
لكن الاسم الأبرز الذي يربط هذه القصة بعالم الموسيقى هو الملياردير لين بلافتنيك، أحد أغنى رجال الأعمال في العالم، بثروة تُقدّر بما بين 25 و35 مليار دولار. يملك بلافتنيك عبر شركته الاستثمارية Access Industries حصصاً مؤثرة في Warner Music Group إحدى كبريات شركات الموسيقى العالمية، وهو من أكبر المساهمين في منصة البث الفرنسية الشهيرة ديزر، إضافة إلى استثمارات في الإعلام والعقارات الفاخرة والموضة.
اللافت أن بلافتنيك معروف بدعمه السخي لإسرائيل، إذ موّل جامعات ومؤسسات إسرائيلية بملايين الدولارات. وهنا يبرز السؤال الأخلاقي: هل تبقى منصات موسيقية مثل "ديزر" و"وارنر" كيانات ترفيهية "محايدة"؟ أو بمعزل عن الصراعات السياسية أم أن ارتباطها الوثيق بمالك يوجّه أمواله ومواقفه لدعم إسرائيل يجعل أرباحها جزءاً من شبكة تمويل غير مباشرة لسياسات مرتبطة بالحرب؟
بعبارة أخرى، القضية ليست في المنصات نفسها بوصفها كيانات تجارية، بل في السلطة المالية والسياسية التي يمارسها مالكها الأساسي، ما يتيح لنا أن نتساءل عن العلاقة المتشابكة والمعقدة للموسيقى مع رأس المال العالمي والاستثمارات القابعة خلفها، والحدود المائعة بين الترفيه والتكنولوجيا والاستثمار في الحروب.

على المقلب الآخر، وإلى جانب المنصات الغربية العملاقة، برزت "أنغامي" بوصفها أول منصة موسيقى عربية كبرى، أسسها عام 2012 إيلي حبيب وإيدي مارون، لتصبح بسرعة لاعباً محورياً في سوق البثّ الموسيقي بالمنطقة. 
واصلت "أنغامي" شراكاتها مع كبريات شركات الموسيقى العالمية، مثل Universal Music Group وSony Music Entertainment وWarner Music Group وMerlin Network، ما جعلها مرتبطة عملياً بالبنية التحتية ذاتها التي تتحكم بالتدفق الموسيقي العالمي.
لكن علاقة "أنغامي" بالملف الفلسطيني كانت أعقد، فخلال حملة المقاطعة، أثيرت تساؤلات واسعة حول وجود محتوى إسرائيلي على المنصة، بما في ذلك بودكاست من صحيفة Times of Israel. وبعد ضغوط الحملة، بدأت المنصة بحذف هذا المحتوى تدريجياً.

_______________

أكدت في اتصال مباشر مع منظمي الحملة أنها تعمل على حظر المحتوى الإسرائيلي مُطلقاً في بنيتها البرمجية. وأطلقت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 مبادرة "في حب فلسطين" لتعزيز حضور المحتوى الفني والشعري الفلسطيني.
المفارقة أن "أنغامي"، وعلى الرغم من مواقفها المعلنة، تبقى مرتبطة تعاقدياً مع الشركات الموسيقية العالمية الكبرى (وارنر، ويونيفرسال، وسوني). بمعنى آخر، تعمل المنصة ضمن منظومة إنتاج موسيقي عالمية يتحكم بها "الثلاثة الكبار"، وهي شركات ترتبط باستثمارات وصفقات مالية وتجارية مثيرة للجدل مع إسرائيل.
تمتلك "أنغامي" روابط مباشرة مع هذه الشركات عبر تعاقدات ترخيص وتوزيع، إضافة إلى التزامها بالسياسات العالمية المتعلقة بحقوق الملكية، ومنها ما يخص مواجهة المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي. هذه الصلة تجعلها جزءاً من البنية التحتية الموسيقية التي تديرها الشركات الثلاث لا تقتصر أدوارها على كونها مورّدة، بل تتجاوز ذلك إلى فرض نفوذ استراتيجي على سوق البث الموسيقي في المنطقة.
في بيانات "أنغامي" الرسمية، يُؤكَّد دوماً أن استمرار المنصة مرهون باستمرار هذه التراخيص؛ أي أن العلاقة ليست عرضية بل جوهرية لوجودها. بكلمة مختصرة: "أنغامي" قائمة على تراخيص "الكبار الثلاثة"، ومن دونها تفقد أهميتها أمام منافسيها مثل "سبوتيفاي" و"ديزر".
وبالنسبة إلى سوني غروب، فقد وثقت تقارير حقوقية استخدام جيش الاحتلال الاسرائيلي لتقنيات تصوير عالية الجودة وحساسات ضوئية من تصنيع شركة سوني اليابانية عُثر عليها داخل عدة صواريخ اسرائيلية استخدمت خلال الحرب على غزة.
بالنسبة إلى سوني ميوزك، فالوضع أبرد سياسياً، إذ لا توجد روابط علنية مباشرة بين قياداتها والحكومة الإسرائيلية. لكن الشركة الأم Sony Group لديها حضور في إسرائيل منذ استحواذها عام 2016 على شركة Altair للرقائق الإلكترونية، التي أعيدت تسميتها إلى Sony Semiconductor Israel. هذا استثمار تقني وتجاري، وقد ظهرت في 2025 تقارير عن احتمال بيع هذا الفرع. 
عند النظر في علاقات شركات الموسيقى الكبرى بإسرائيل، يتضح أن الصورة أكثر تركيباً مما تبدو عليه للوهلة الأولى؛ "وارنر ميوزك غروب" مثلاً لا تنخرط مباشرة في عقود عسكرية، لكن مالكها الرئيسي، الملياردير لين بلافتنك عبر شركته Access Industries، ظل لاعباً نافذاً في المشهد الإعلامي والسياسي الإسرائيلي، فقد كان شريكاً في ملكية القناة 13 الإسرائيلية.
هذا كله يوضح أن الخيط الذي يربط "وارنر" بالسياسة الإسرائيلية لا يمر عبر الشركة مباشرة، بل عبر خيارات مالكها ونشاطاته "الخيرية" والاستثمارية، مثل تمويله مراكز بحثية في جامعة تل أبيب متخصصة في الأمن السيبراني. إلى جانب ذلك، لم تخف وارنر موقفها العلني؛ إذ أصدرت بياناً بعد هجمات 7 أكتوبر 2023 أدانت فيه حماس وعبّرت عن تضامنها مع إسرائيل والجالية اليهودية حول العالم.
أما "يونيفرسال ميوزك غروب"، فهي حالة مختلفة. هنا نتحدث عن وجود تجاري مباشر في إسرائيل منذ 2021، عبر فرع Universal Music Israel وفرع النشر UMPG Israel، ما جعلها هدفاً لحملات المقاطعة (BDS) التي وصفت نشاطها بأنه شكل من أشكال "التطبيع الثقافي". لكن المثير للانتباه أن الجدل لا يقف عند حدود السوق الموسيقي، بل يمتد إلى هوية المساهمين. فعائلة بولوريه الفرنسية، التي تمتلك نحو 18.5% من أسهم "يونيفرسال"، معروفة بنفوذها الإعلامي ومواقفها اليمينية، وقد ربطت تقارير صحافية بينها وبين موجة تشدد رقابي في فرنسا أثناء حرب غزة 2023، حين توقفت دار فايار عن توزيع كتاب إيلان بابيه حول النكبة الفلسطينية.
إضافة إلى ذلك، يملك المستثمر الأميركي بيل أكمان نحو 4.7% من أسهم الشركة، وهو شخصية بارزة في وول ستريت لم يخفِ مواقفه المؤيدة لإسرائيل، حتى أنه دعا علناً إلى فضح أسماء طلاب هارفارد الذين انتقدوا الممارسات الإبادية الممنهجة التي اتخذتها اإسرائيل هذه الشبكة من المصالح السياسية والإعلامية لا تجعل يونيفرسال شركة عسكرية، لكنها تضعها في قلب جدل واسع حول تقاطع المال والثقافة مع الصراع.

المساهمون