ممداني عمدةً لنيويورك... انتصار الإنترنت على التلفزيون
استمع إلى الملخص
- اعتمد ممداني على التفاعل الشبكي بدلاً من الإعلانات التقليدية، مما ساهم في انتشار واسع لمقاطع الفيديو وزيادة الإقبال على التصويت، محطماً النموذج الكلاسيكي للحملات الانتخابية.
- رغم الانتقادات، عزز ممداني صورته كسياسي مبدئي، مما يمثل لحظة انعطاف في السياسة الحضرية الأمريكية نحو جيل رقمي يركز على التواصل الجماعي.
في سابقة تاريخية في الحياة السياسية الأميركية، انتُخب زهران ممداني النائب الشاب عن الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي
، والمعروف بمناهضته الشديدة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، رئيساً لبلدية نيويورك، متقدماً على حاكمي الولاية السابقين أندرو كومو والجمهوري كورتيس سليوا. بهذا الفوز، يصبح ممداني، البالغ من العمر 34 عاماً، أول مسلم يتولى رئاسة بلدية أكبر مدينة في الولايات المتحدة، في لحظةٍ تمثّل اختباراً انتخابياً حساساً للرئيس الجمهوري الذي بذل جهوداً مكثفة لثني الناخبين عن التصويت له.ينتمي ممداني إلى جيلٍ جديد من السياسيين الأميركيين الذين أعادوا رسم ملامح الحملات الانتخابية عبر الإنترنت، إذ لعبت المنصات الرقمية دوراً محورياً في صعوده المفاجئ. وكشفت صحيفة نيويورك، في تقرير موسّع نُشر في نهاية يونيو/حزيران الماضي، أن ممداني بنى حملته الانتخابية على استراتيجية رقمية متكاملة، حولت حملته إلى ظاهرة ثقافية وانتخابية في آنٍ واحد.
منذ بداية الصيف، اعتمد ممداني على أسلوب تواصلي يزاوج بين السياسة الشعبية والتفاعل البصري، مستفيداً من مهاراته كـ"ابن للعصر الرقمي"، كما وصفته الصحيفة. فهو ابن المخرجة السينمائية ميرا نير التي رشحت لنيل جائزة أوسكار، ويملك حساً بصرياً حاداً مكّنه من تقديم محتوى جاذب على المنصات الاجتماعية، خصوصاً "تيك توك" و"إنستغرام"، حيث تحولت مقاطع الفيديو التي يظهر فيها إلى مادة متداولة على نطاق واسع. ووفقاً لتقرير نشره موقع وايرد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم تكن حملة ممداني الرقمية مجرد نشاط دعائي، بل تجربة تفاعلية متكاملة: كلما نشر مقطعاً جديداً، أنتج أنصاره مقاطع موازية أو مقلّدة بأسلوب ساخر أو داعم، فخلقت بذلك دينامية شبكية لا مركزية غذّت الانتشار العضوي لحملته.
خلال أسابيع، لم يعد ممداني مجرد مرشح، بل "ظاهرة"، أو كما وصفه بعض مستخدمي الإنترنت: "ميم سياسي" بملامح إنسانية. تميّزت مقاطع الفيديو التي نشرها ممداني ببساطتها وسرعتها، إذ شرح فيها سياساته، من تجميد الإيجارات إلى مجانية النقل العام ورعاية الأطفال، بلغة قريبة من جيل الألفية والجيل زد، وبإيقاع بصري سريع يتناسب مع زمن المنصات. وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أن تلك المقاطع لم تقتصر على الصفحة الرسمية للمرشح، بل انتشرت عبر حسابات مؤثرين وشباب من خلفيات متنوعة، رأوا في ممداني ممثلهم الاجتماعي والسياسي.
إحدى أبرز المؤثرات، الفنانة الشابة أولادوين أوجنسولا (22 عاماً)، نشرت على "تيك توك" مقطعاً من 12 ثانية عنوانه: "أصوّت لزهران لأنني أستحق فرصة لبناء حياة في المدينة حيث ترعرت"، حصد أكثر من 30 ألف مشاهدة. فيما نشرت فيفيان ماسكارا، شابة في التاسعة عشرة من كوينز، مقطعاً قصيراً عنوانه "أمرر الهاتف إلى رئيس بلديتنا المقبل"، حقق أكثر من نصف مليون مشاهدة. وتنوّعت المقاطع بين الأداء الغنائي والحوارات الساخرة، وصولاً إلى فيديوهات عفوية استخدمت فيها أغانٍ يابانية أو مشاهد من مباريات دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين (NBA) لتفسير طروحات ممداني.
ووفقاً لمحللين نقل عنهم "وايرد"، فإن تلك المقاربة "حطّمت النموذج الكلاسيكي للحملة الانتخابية"، إذ نقلت العمل السياسي من المكاتب التنظيمية إلى فضاء تفاعلي تشاركي، تتحكم به الخوارزميات أكثر مما تتحكم به الماكينات الحزبية. فبدلاً من إنفاق الأموال على الإعلانات، استثمر ممداني وفريقه في بناء علاقة مع جمهور الإنترنت، فحوّل مؤيديه إلى رواة لرسالته.
لكن هذا الصعود الرقمي لم يكن بلا خصوم. فخلال المناظرة الأخيرة قبل الانتخابات، سخر أندرو كومو من ممداني قائلاً: "إنه ممتاز في الفيديوهات، لكنه ليس كذلك في الواقع"، في إشارة إلى افتقاره للخبرة التنفيذية. أما رئيس البلدية المنتهية ولايته إريك آدامز، الذي خاض السباق مستقلاً، فقال في افتتاح حملته العامة: "لديهم سجل من التغريدات، أما أنا فلدي سجل من الشوارع"، في إشارة إلى نشاطه الأمني السابق. وعلى الرغم من ذلك، فإن ممداني واصل تقدّمه بثبات في استطلاعات الرأي، إذ رأى فيه الناخبون، بحسب عالم السياسة كوستاس بانايوبولوس، وجهاً جديداً قادراً على "إعادة إشعال الحماسة لدى الناخبين الذين ابتعدوا عن السياسة، بحثاً عن شخصيات مختلفة أكثر صدقاً وتنوعاً". أظهرت الإحصاءات الصادرة عن مجلس الانتخابات أن نسبة الإقبال على التصويت بلغت 1.75 مليون ناخب حتى السادسة من مساء الثلاثاء (بالتوقيت المحلي)، مقابل 1.15 مليون فقط في الانتخابات السابقة عام 2021، ما عُدّ مؤشراً مباشراً على الحشد الشبابي الذي أطلقته حملة ممداني عبر الإنترنت.
في المقابل، صعّد الرئيس دونالد ترامب من هجماته، إذ كتب على منصته تروث سوشال: "أي يهودي يصوّت لزهران ممداني... هو شخص غبي!"، واصفاً المرشح المسلم بأنه "يكره اليهود". ممداني، الذي طالما تعرض لهجمات بسبب دعمه العلني للقضية الفلسطينية وانتقاده للحرب على غزة، ردّ قائلاً إن رفضه لسياسات إسرائيل لا يعني عداءً للسامية، مؤكداً سعيه إلى بناء "مدينة تسع الجميع". هذا الموقف عزّز صورته سياسياً مبدئياً لا يرضخ للابتزاز الإعلامي أو الديني.
وُلِد ممداني في أوغندا لعائلة من المثقفين الهنود المهاجرين، وانتقل إلى الولايات المتحدة في سن السابعة، حيث نشأ في حي كوينز وتخرّج من جامعة نيويورك. حصل على الجنسية الأميركية عام 2018، ودخل المعترك السياسي عبر العمل المجتمعي ثم فوزه بمقعد في مجلس الولاية عن الدائرة 36، ممثلاً أستوريا. جعل من أزمة المعيشة وضبط الإيجارات محور نضاله السياسي، إذ يرى أن "الكرامة تبدأ من القدرة على البقاء في مدينتك من دون أن يطردك المؤجر"، كما صرّح في أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت بشكل واسع. قبل أن يُعلن فوزه رسمياً، وقف ممداني رفقة زوجته راما دوجي أمام مركز اقتراع في أستوريا قائلاً للصحافيين: "نحن على وشك أن نصنع التاريخ... ونودّع سياسة الماضي".
بعد إعلان النتائج، كتب زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب، حكيم جيفريز، على منصة إكس: "عاد الحزب الديمقراطي". لكن ممداني واجه أيضاً تحفظاً من داخل حزبه، إذ تجنّب بعض كبار الديمقراطيين مثل تشاك شومر إعلان دعم صريح له، خشية التوتر مع التيار الوسطي أو مع اللوبيات المؤثرة في نيويورك.
ورغم التهديدات التي أطلقها ترامب بتعطيل بعض الإعانات الفيدرالية للمدينة تحت إدارة ممداني، اعتبر مراقبون أن فوز المرشح اليساري يُعدّ "لحظة انعطاف في السياسة الحضرية الأميركية"، إذ يمثل انتقال مركز الثقل السياسي من النخب التقليدية إلى جيلٍ رقمي يرى السياسة فعلا تواصليا جماعيا لا خدمةً مؤسسيةً مغلقة. وقالت ألي أوبراين، وهي صانعة محتوى سياسي على "تيك توك" يتابعها أكثر من 600 ألف شخص، في تصريح لـ"نيويورك تايمز"، إن "ما فعله ممداني هو إعادة تعريف معنى أن تكون سياسياً في عصر الإنترنت. لم يكن مجرد مرشح يتقن السوشال ميديا، بل جسّد فعلاً الإيمان بقدرتها على بناء وعي جمعي". وأضافت: "السياسيون الآخرون يظنون أن مجرد إلقاء النكات أو اللقطات القريبة من الناس تكفي، لكنها لا تنجح إن لم تكن نابعة من صدق، وزهران يملك هذا الصدق وهذه الجاذبية".
ووصف تقرير "وايرد" فوز ممداني بأنه "درس في كيف يمكن للتحول الرقمي أن يعيد توزيع السلطة السياسية في المدن الكبرى"، ورأى في حملته "مختبراً تفاعلياً للديمقراطية الرقمية" جمع بين الإنتاج البصري، واللغة الشبابية، والرسائل المطلبية الواضحة. بعد إعلان النتائج، كتب أحد مستخدمي "تيك توك" في تعليق على فيديو لممداني: "انتصر الإنترنت على التلفزيون"، في تلخيصٍ ساخر ودقيق في آنٍ معاً لمعنى هذه اللحظة.