معرض نقود المغرب القديم: صُوَرٌ من الذاكرة الحضارية

معرض نقود المغرب القديم: صُوَرٌ من الذاكرة الحضارية

16 اغسطس 2022
أعمال فنية بصرية في تخوم الذاكرة المغربيّة (متحف بنك المغرب/فيسبوك)
+ الخط -

في المعرض الفنّي الجديد "نقود المغرب القديم: صور ورموز" الذي نظمه متحف بنك المغرب بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، يعثر المُشاهد المغربيّ على نقودٍ كثيرةٍ موروثة عن حقبٍ تاريخيّة مُتباينةٍ تتّصل بتاريخ المغرب. 

وتتوزّع أعمال المعرض بين اللوحات والنقود والصُوَر التاريخيّة الخاصّة بها، في محاولةٍ لتتبّع الدور الحضاري لهذه اللقى الأثريّة ومكانتها المركزيّة في تاريخ المغرب، على اعتبار أنّ سكّ النقود يدخل ضمن عملية تاريخيّة مُرتبطة بالقوّة والأوج الحضاري الذي تمُرّ منه الدولة في مسار حكمها وتوسّعها.

المعرض الذي يشهده رواق محمّد الدريسي للفنّ المعاصر في مدينة طنجة المغربيّة، لا يقف عند الحدود الفنّية والأساليب الجماليّة التي تطبع هذه النقود، بقدر ما ينزع صوب تمثّلاتٍ فكريّة تتّصل بالجانب الحضاري في صناعة العملة من خلال عرض بعض العملات النقدية وصُوَرها وتغذيتها بعشراتٍ من المعلومات وسياقاتها التاريخيّة. وتبرز أهمية المعرض في كونه سفراً بصرياً في طوبوغرافية التاريخ المغربيّ ورصدًا للمآلات الحضارية التي مرّت منها النقود المغربيّة منذ الفترة القديمة إلى اليوم، ما يُبرّر الأبعاد الرمزيّة التي جاءت في عنوان المعرض، بوصفها ممارسات فنّية وضرباً جماليّاً، لا يقف عند حدود الصنعة، وإنّما يُظهر مكانة هذه الحرفة في تاريخ المغرب، وما تتميّز به من جماليّات ورموزٍ وعلاماتٍ.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ المسكوكات (علم النقود) تُشكّل مصدراً هامّاً من مصادر الكتابة التاريخيّة العربيّة، لما تتوفّر عليه من إمكاناتٍ مُذهلة من الناحية التأريخيّة، لكونها تُزوّد المؤرّخ بسيلٍ من المعلومات الصحيحة المُرتبطة بنشوء الدول وطبيعة المواد التي تُصنع منها النقود ووظيفتها التجارية في حقبةٍ تاريخيّة معيّنة. وهذا النّمط من الموّاد القديمة تكاد النقود تنفرد به، لأنّها المصدر المهمّ الذي يُمكّننا من التقاط معلومات دقيقةٍ حول طبيعة هذه المواد التي كانت مُتداولة في المغرب القديم. كما تُساعدنا تواريخ السكّ على ضبط بدايات أوج الدولة من جانبها الحضاري ومن كان يحكم في تلك الفترة التاريخيّة. لكنْ من جانب آخر، تُظهر العملات النقدية القديمة المراحل التاريخيّة التي قطعها البلد تجارياً مع باقي بلدان الجوار في سبيل تحقيق علاقات دبلوماسية مُتوازنة الطرفين. 

آداب وفنون
التحديثات الحية

كما تُبيّن وبشكلٍ واضحٍ مناطق نفوذ الدولة، باعتبارها كيّاناً قائماً لكونه يتوفّر على عملة، ما يجعله بلداً مُسيطراً يُعترف به وبسُلطته على باقي الجغرافيات الأخرى القريبة والبعيدة منه. وإذا كان المعرض يجعل من هذا الضرب التاريخيّ مُنطلقاً خفياً لأعماله الفنّية، فإنّ الجانب الجماليّ يُعد بمثابة جوهر أيقوني لهذا المعرض، فمن خلاله ترسم النقود مسارها وأهدافها وقيمتها وذاكرتها بالنسبة للزمن المعاصر. 

إنّ الجديد الذي يُقدّمه العرض هو في طريقة تعامله مع النقود، باعتبارها أعمالاً فنّية بصريّة تُتيح للمُشاهد سفراً بصرياً في تخوم الذاكرة المغربيّة وفهم اللحظات العسيرة التي مرّت منها في عملية تشكّل معالمها. ليس سكّ العملة مجرّد عمليةٍ صناعة تقوم بها البلدان، وإنّما مساحة فنّية تستحق الكثير من التأمّل والتفكير والإبداع، لكونها تُدخل الصانع في عملياتٍ منهجية تتعلّق باللون والحجم وطبيعة المعدن وأشكاله وخطوطه، بما يجعله عملاً فنّياً حرفياً، لا يستطيع نحت أفقه البصريّ، إلاّ فنّانٌ متشبّع بثقافة جماليّة قويّة تُمكّنه من خلق نموذجٍ هندسي مُميّز للعملة النقدية.

هذا فضلاً عن الأبعاد الحضارية التي تجعلها في الزمن المعاصر بمثابة عملٍ فنّي قادرٍ على توثيق الذاكرة المغربيّة ورصد اللحظات الأليمة التي مرّت منها. لذلك لم يحفل المعرض فقط بالجانب الأيقوني أو الفنّي للنقود، بل انصبّ تركيزه بدرجةٍ أولى على مناح رمزيّة، تُظهر أهميّة هذه الصنعة الفنّية في تاريخ المغرب وإلى أيّ حدّ تستطيع هذه الصناعة خلق تراث فنّي مُميّز للبلد في علاقته بالذاكرة.
 

المساهمون