مسابقة فريدريك شوبان... كلاسيكيات أوروبا بالصينية

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 18:00 (توقيت القدس)
إيريك لو الحائز على الجائزة الأولى في المسابقة، 21 أكتوبر 2025 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اختتمت مسابقة فريدريك شوبان الدولية للعزف على البيانو بفوز إيريك لو بالجائزة الأولى، مما يبرز أهمية المسابقات الموسيقية كمنصات دولية لتعزيز المواهب الشابة والقوة الناعمة للدول.

- تاريخياً، تطورت المسابقات الفنية من العصور القديمة إلى العصر الحديث، حيث أصبحت مؤسساتية في القرن التاسع عشر، مما ساهم في تحولها إلى منافسات دولية تعكس التنافس بين القوى الكبرى.

- رغم تراجع اهتمام الصين بالموسيقى الكلاسيكية الغربية مؤخراً، إلا أنها لا تزال تنتج مواهب بارزة مثل تزيتونغ وانغ، الذي أظهر إبداعاً فريداً في مسابقة شوبان.

شهدت العاصمة البولنديّة وارسو الأسبوع الماضي، في 24 أكتوبر/تشرين الأوّل، اختتامَ الدورة التاسعة عشرة من مسابقة فريدريك شوبان الدوليّة للعزف على البيانو. ترأّس لجنةَ التحكيم، المؤلَّفة من سبعةَ عشرَ عضواً، الفائزُ الأسبق عام 1970 الأميركيّ غاريك أولسون، وقد مُنحت الجائزةُ الأولى للعازف إيريك لو (27 عاماً)، فيما نال كيفن تشن (20 عاماً) الجائزةَ الثانية، وكانت الثالثةُ من نصيب تزيتونغ وانغ (26 عاماً).

ليست مسابقاتُ الفنون الأدائيّة، ولا سيّما الموسيقيّة منها، حديثةَ العهد، بل تعود جذورها إلى العصور القديمة. ففي القرن السادس قبل الميلاد، استضافت المدينةُ الإغريقيّة دلفي، الواقعة على بُعد 180 كيلومتراً شمالَ غرب أثينا، مسابقةً في الشعر والموسيقى تكريماً لإله الفنون أبولّو، نال الفائزُ بها إكليلاً من ذهب. وفي العصور الوسطى، عرفت أوروبا "حربَ المغنّين" (Sängerkrieg)، وهي عروضٌ غنائيّة على شكل مبارزاتٍ بين شعراء التروبادور.

زمن الحداثة، اكتسبت مسابقاتُ الأداء طابعاً مؤسّساتيّاً، إثر إنشاء المعاهد الموسيقيّة في أنحاء أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، حين بدأ يُنظَر إلى الموسيقى بوصفها قطاعاً ثقافيّاً ومعرفيّاً ترعاه الدولُ الوطنيّة الناشئة تعزيزاً لقوّتها الناعمة. ساهم ذلك في تحوّل تلك المسابقات الوطنيّة إلى دوليّةٍ مطلع القرن العشرين، لتغدو، شأنها شأن الألعاب الرياضيّة، حلبةَ تنافسٍ بين القوى الكبرى، ولا سيّما بين الاتّحاد السوفييتيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة إبّان الحرب الباردة.

وفضلاً عن الجانب السياسيّ، الوطنيّ والعالميّ، ثَمّة أيضاً جانبٌ اقتصاديّ؛ إذ باتت تلك المنافساتُ منصّاتِ اصطفاءٍ ثمّ انطلاقٍ للموسيقيّين الشباب على مسارٍ يُدخلهم سوقَ العمل، إمّا بوصفهم عازفين منفردين، أو أعضاء بارزين في كبريات الفرق الأوركستراليّة. فبسبب رجحان كفّة العرض على الطلب، وندرة الفرص في قطاعٍ ليس صناعيّاً ولا ربحيّاً بل ثقافيّ نخبويّ ضيّق الأسواق محدود المستهلكين، غدت تلك النزالاتُ قنواتٍ لا غِنى عنها لكلّ من رغب في احتراف عزف الموسيقى الكلاسيكية، وطَمِح إلى إبرام عقودٍ مع وكلاء الأعمال، أو إدراج اسمه في جداول الصالات الكبرى ومهرجاناتها، أو جذب شركات تسجيل الأسطوانات وتسويقها.

بالعودة إلى الوجه السياسيّ لتلك التظاهرات الفنّيّة، تبدو النسخةُ الأخيرة من مسابقة فريدريك شوبان الدوليّة كما لو أنّها تعكس المشهدَ الجيوسياسيَّ الراهن من خلال تجلّيات القوّة الناعمة الثقافيّة والمعرفيّة للقوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين، إذ إنّ الفائزين الثلاثة في الدور النهائيّ جميعهم من أصولٍ صينيّة: إحداهم مواطنة، والآخران مهاجران. وبالنظر إلى أسماء العازفين الثلاثةَ عشرَ الذين تأهّلوا إلى الدور النهائيّ، نجد أنّ سبعةً منهم صينيّون أو من أصولٍ صينيّة.

يُذكر أنّ الصين سلكت طريقاً متعرّجاً نحو تبنّي الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة جزءاً من ترسانة قوّتها الناعمة، وأحدَ مرافق حياتها الثقافيّة الحيويّة، وذلك منذ إنشاء أوّل معهدٍ للموسيقى في شنغهاي سنة 1927، في عهد الجمهوريّة المبكّرة. عقب تأسيس جمهوريّة الصين الشعبيّة في الخمسينيّات، اقتداءً بالنموذج السوفييتيّ، استثمر الحزبُ الشيوعيّ الصينيّ في الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، داخل البلاد وخارجها، لتأكيد توجّهه التقدمي العلمانيّ والعالميّ؛ سواء عبر توسيع المؤسّسات الحاضنة لها، من مسارح ومعاهد، أو من خلال ابتعاث المواهب الواعدة إلى الخارج. غير أنّ "الثورة الثقافيّة" في عهد ماو سنة 1966 حرّمت الموسيقى الغربيّة، وعدّتها هويةً صوتيّةً للطبقة البرجوازيّة.

أمّا الصين ما بعد ماو، في أواخر السبعينيّات، فقد أدرجت استثمارها في الموسيقى الكلاسيكيّة وسائر الفنون والمعارف ذات الأصول الأوروبيّة ضمن برنامج الانفتاح ولبرلة الاقتصاد، الذي بلغ ذروته مطلع القرن الحاليّ، وبدأت نتائجه تتبلور كماً ونوعاً، شكلاً ومضموناً. وبحسب تقريرٍ لصحيفة ذا غارديان سنة 2008، قُدّر عددُ عازفي البيانو في الصين بعشرين مليوناً، فيما بيع عام 2019 نحو 400 ألف آلة بيانو، بمعدّلٍ وصل عام 2021 إلى أكثر من ثماني آلاتٍ لكلّ مئةِ عائلةٍ، أغلبها في المدن.

عدا أنّ هذا التوجّه بدأ يشهد تراجعاً في الأعوام الأخيرة، ويفقد جزءاً من اهتمام الدولة، أوّلاً بفعل الأزمة الاقتصاديّة الناجمة عن جائحة كوفيد-19 التي أدّت إلى تقليص الدعم الماليّ للموسيقى، سواءً في المناهج الدراسيّة أو في تمويل المعاهد والجامعات المتخصّصة، وثانياً بسبب اتّجاه القيادة السياسيّة الحاليّة إلى تبنّي نهجٍ أكثر أصوليّة قوميّة في تعريف الهويّة الثقافيّة الصينيّة.

ومع ذلك، فما يزال في الصين من المواهب كماً ونوعاً، في الداخل والخارج، ما يكفي لإبقاءِ الضوءِ مُسلَّطاً عليها والأملِ معقوداً إزاء قدراتها على تحقيق الفوز في المسابقات العالمية؛ إذ تحظى بالتشجيع والرعاية، بدءاً من الأسرة وانتهاءً بالمؤسّسات الثقافيّة، لتدلَّ مجدّداً على التفوّق منقطعِ النظير الذي بلغه الجيلُ الجديد من الموسيقيّين الصينيّين.

موسيقى
التحديثات الحية

بات هؤلاء اليوم يتحدَّون التنميطَ المُسبَق القائلَ إنّ العازفَ الصينيَّ مُتقِنٌ كالآلة، لا يبتكر صوتاً خاصّاً ولا أسلوباً فريداً، بل يصبُّ جلَّ تركيزه على الجودة؛ أمّا التعبيرُ الفنّيّ فغالباً ما يقومُ على نسخِ ما يسمعه لدى العازفين الغربيّين.

ضمن هذا السياق، وعند الاستماع إلى العازفين الذين بلغوا الدورَ النهائيّ من مسابقة فريدريك شوبان الأخيرة، تبرز المواطِنةُ الصينيّة تزيتونغ وانغ، الحائزةُ على الجائزة الثالثة، بابتكارها خامةً صوتيّةً خارقةً للعادة. ويتجلّى ذلك في الدور الثالث، لدى أدائها سوناتة شوپان بمقام سي بيمول مينور، مصنَّف 35، وعلى الأخصّ في الحركة الثالثة ذائعةِ الصيت المعروفةِ بـ"المارش الجنائزيّ".

هكذا، تبقى المقاطعُ الموسيقيّةُ الأشهرُ هي الأصعبَ في ابتكارِ خامةٍ صوتيّةٍ فريدة، بعد أن تعاقب على عزفها آلافُ العازفين العالميّين، وسُجِّلت مئات آلافِ المرّات. وفضلاً عن كونِ البيانو آلةً طَرقيّةً ميكانيكيّة، يصعبُ بشدّةٍ التلاعبُ بلون الصوت الصادر عنها، إذ يفصل بين إصبعِ العازف والوترِ مفتاحٌ على هيئةِ مطرقةٍ خشبيّة. لأجل ذلك، اعتمدت وانغ مقاربةً بطيئةَ الإيقاع في أدائها للمارش، مستفيدةً من دوّاساتِ إطالةِ الصوت، بغيةَ جعلِ النغماتِ تتداخلُ بعضها في بعضٍ، فيشتدُّ بذلك كمونُها التعبيريّ.

المساهمون