استمع إلى الملخص
- السيرة الحياتية لمريم، التي تؤديها نُوا كُوِن، تستعرض رحلتها من الحمل والإنجاب إلى مواجهة مطاردة لوسيفر، مع إبراز صراعها مع بيئة اجتماعية وملك قاتل، وعرض نزاع بين السياسة والدين.
- يضم الفيلم ممثلين إسرائيليين في أدوار رئيسية، مما يثير تساؤلات حول مصداقية الاختيار، ويُعتبر عملاً مشغولاً بمهنية، بعيداً عن كونه فيلماً دينياً بفضل عناصر التشويق والمطاردات والمؤامرات.
عربياً، يُهاجم "مريم" (2024) للأميركي دي. جي. كاروزو قبل بدء عرضه في "نتفليكس" (6 ديسمبر/كانون الأول 2024). هذه عادة تتأصّل، مرة تلو أخرى، في تفكيرٍ يرى في الهجوم عملاً أسهل من المُشاهدة والنقاش والحوار. تفكيرٌ يرفض التنبّه إلى أنّ كلّ شيءٍ مُباح في السينما، وأنّ كلّ المُباح فيها قابلٌ للمُشاهدة والنقاش والحوار. سَوق اتّهامات يُريح تفكيراً كهذا، يتمسّك بالأستذة التي تُبيح له فرض أمرٍ على كثيرين وكثيرات، بحجّة امتلاكه المعرفة المطلقة واليقين غير المتزحزح بكلّ المسائل.
كلامٌ كهذا لن يكون دفاعاً عن "مريم"، الذي يروي حكاية السيدة مريم، والدة يسوع المسيح، ومعركتها الطاحنة ضد مجتمع ذكوريّ، مُقيم في الانغلاق والتشدّد والعصبيّة، رغم أنّه يواجِه، في الوقت نفسه، بطشاً رومانياً، يتزعّمه هيرودوس الملك. حكاية منسوجة بخيالٍ بصري، يعتمد مرويّات إنجيلية في مفاصل أساسية، ويتغاضى عن أخرى، من دون الإضرار بالحبكة المتخيّلة، مع أنّ التغاضي عنها يتناقض والمرويّ الإنجيلي/الديني.
"مريم" روائيّ طويل (112 د.) لا وثائقيّ يبغي تنقيباً/مزيداً من تنقيبٍ عن وقائع وحقائق، أو يجهد في تفنيد وقائع وحقائق متوارثة. يمزج المتداول (بل بعضه) بالخيال، ليقول شيئاً عن بطشٍ حاكم، واجتماع ذكوري، وحب وإيمان وتحدّ وثقة.
السيرة الحياتية لمريم (نُوا كُوِن) تبدأ من والديها يواكيم (أوري بْفِّفر) وحنّة (هيلاّ فيدور). هيام الأول في صحراء الأردن (العام 18 قبل الميلاد)، صائماً عن كلّ مأكل ومشرب لإرضاء الله فيرزقه ابناً/ابنة. الثانية تنتظره في المنزل، ولها صلواتها، ليُتاح لها إنجابٌ تبغيه. الملاك جبرائيل (دادلي أوسْهوغنَسي) يُنهي صيام يواكيم وهيامه مُبشّراً إياه بما يريد، شرط التعهّد بإلزام الابنة خدمة الله في المعبد، ويُخبر المرأة في منزلها الأمر نفسه. ثم حَملٌ وإنجاب في أورشليم (مملكة هيرودوس، العام 17 قبل الميلاد).
في البداية، تنظر مريم إلى عدسة الكاميرا حاملةً رضيعاً بين يديها، ورجل/يوسف يمتطي حصاناً إلى يمينها: "ربما تظنّون أنّكم تعرفون قصّتي. لكنْ، صدّقوني، أنتم لا تعرفونها" (شبه جزيرة سيناء، السنة الميلادية الأولى). هناك شيءٌ من ويسترن الغرب الأميركي في السابق على تلك اللقطة: حصانٌ يعدو، سيُعرف لاحقاً أنّه هاربٌ بمن يمتطيه من مطاردة حاكمٍ مجنون، يُريد قتل طفلٍ، يعتبره كثيرون وكثيرات، قبل ولادته، مخلّصاً لليهود من بطش الرومان. تفاصيل السيرة الحياتية لمريم مؤلّفةٌ بغالبيتها، وبعض المروي في أناجيل وكتبٍ/دراسات يحضر في سردٍ (كتابة تيموتي مايكل هايس) يمزج تشويقاً بسياسة (حكم ديكتاتوري لهيرودوس/أنتوني هوبكنز) ودين (الهيكل الثاني) واجتماع (فقراء وثوّار، وأيضاً تفكير محافِظ وتسامح سلس).
"مريم" غير تأريخيّ/أرشيفي/توثيقي، بل حكاية منسوجة بخيالٍ مُطعّم بتفاصيل حاصلة وفقاً لكتبٍ مُعترف بها. جمال نُوا كُوِن يكاد يحول دون معاينة أداءٍ، يُفترض به كشف ارتباكات كثيرة تعيشها شابّة، تجد نفسها في مواجهات عدّة: حَملٌ من دون زواج في مجتمع محافظ، مُطاردة لوسيفر (إيمَن فارِنّ) لها لإبعادها عن الإيمان والله، شكّ قاسٍ، لكنّ الثقة والإيمان حاضران أيضاً. صراع مع بيئة اجتماعية وملك قاتل، في نزاع حادّ بين السياسة والدين (هيرودوس ورئيس كهنة المعبد)، ومحاولة تمرّد ضد الأول تتعرّض لعنفٍ دموي.
هناك ممثلون وممثلات إسرائيليون، في أدوار رئيسية (كلمات عدّة تُلفظ بحروفٍ عبرية، والإنكليزية المعتمدة في الحوارات غير أميركية وبريطانية، باستثناء نبرة هوبكنز). تبرير الاختيار يقول إنّ هناك رغبةً في بلوغ مصداقية. كلامٌ غير مُقنع، فاختيار ممثل/ممثلة يُفترض به أنْ ينبثق أساساً من مصداقية أداء وحِرفية مهنة وبراعة اشتغال، لا من رغبة في تطابق شكليّ بين ممثل/ممثلة وشخصية. الممثلون/الممثلات الإسرائيليون عاديون للغاية، رغم حرفية تقديم الشخصيات. تماماً كأنتوني هوبكنز، الرائع في أي دور يؤدّيه، لخبرته في تحقيق مهنته.
هذا غير حائلٍ دون تنبّه إلى أنّ "مريم" مشغول بمهنيّة مطلوبة، ونقاش النصّ المعتمد في سرد حكاية مريم يحتاج إلى تنقيبٍ في تاريخ ومرويات ونصوص إنجيلية/دينية معتمَدة رسمياً أو منبوذة، كما في اجتماع تلك البيئة في زمنها. مثلاً: يُقال إنْ يوسف والد مريم نجّارٌ، لكنّ هذا غير مُتبنّى في الفيلم. يُقال إنّ يوسف ومريم وابنهما يسوع يلجأون إلى مصر هرباً من القتل الجماعي للأطفال تنفيذاً لأوامر هيرودوس. هذا غير واضح في الفيلم، إذْ تصل العائلة إلى منزل معزول في الصحراء، قبل قليلٍ على وصول جنود الملك القاتل، ثم النجاة منهم، تقودهم إلى الناصرة. لكنْ، أهذا مؤثّرٌ في النص السينمائي؟ أهذا يمنع مُشاهدة سينمائية لفيلمٍ يستعيد حقبة وحالات وحكايات، من خلال امرأة تواجه جماعة؟
التشويق نوع سينمائي، مفردات منه موجودة في "مريم": مطاردات، مؤامرات خفية، محاولات تمرّد، جنون حاكم وريبته من محيطين/محيطات به، صراعٌ بين سلطتين سياسية ودينية، قتل مباشر وتعذيب علني، كما في تتويج مارسيليوس (غودموندر تورفالدسن)، رئيس عسكر هيرودوس، بأمر من الملك، بابا بن بوتا (محمد كورتولوس) بتاج من مسامير، فيُصيبه بالعمى. لذا، يصعب اعتباره فيلماً دينياً، فالتشويق أساسي، وتفاصيل تاريخية تُروى بسلاسةٍ، مُبعدةً إياه عن النوع التاريخي أيضاً.
إنجاز دي. جي. كاروزو يُناقَش من زوايا مختلفة، ويُشَاهَد أولاً.