محمد عبد المجيد... الكمنجة والعمارة في طريق واحد

محمد عبد المجيد... الكمنجة والعمارة في طريق واحد

07 فبراير 2021
+ الخط -

في عام 1973، غنى عبد الحليم حافظ من كلمات نزار قباني وألحان محمد الموجي، قصيدة "رسالة من تحت الماء". تضمنت المقدمة عزفاً منفرداً على الكمان الكهربائي، لفت انتباه الطفل محمد عبد المجيد، فطلب على الفور من والده أن يشتري له كمنجة، ليتعلم العزف، ويتمكن من تقديم الصولو الذي أدّاه العازف محمد مصطفى، خلف العندليب.

كان يظن أن الأمر لن يستغرق أكثر من أسبوع واحد كي يتمكن من عزف المقطع الذي أعجبه. منذ تلك اللحظة، ارتبط محمد عبد المجيد بآلة الكمان، لكنه سار في طريق الموسيقى وهو مثقل بأعباء دراسة الهندسة، والتخصص في العمارة، ثم الترقي في السلك الأكاديمي الجامعي، ليكون "الدكتور مهندس"، الذي يدرس في الجامعة نهاراً، ويعزف الكمان ليلاً، أو ربما حمل آلته إلى الجامعة ليسعد طلابه بعزف بعض الأغنيات الشهيرة، في مشهد نادر، كان سبباً لجذب وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.


بيئة مساندة
سألنا محمد عبد المجيد عن مدى استجابة أسرته لمتطلبات هوايته الموسيقية وهو طفل ما زال يدرس في مراحل التعليم الأولى. يقول: "والدي كان محاسباً في أكاديمية الفنون، وكان عاشقاً لأم كلثوم وعبد الوهاب. كان يجلس في شرفة المنزل ليتسمع إلى "هلت ليالي القمر" وهو ينظر إلى القمر، وكان ينتظر حلول الظلام ليستمع إلى "أقبل الليل". كان متيماً بقصائد السنباطي".

يتابع: "عندما رحلت كوكب الشرق 1975، ورأيت الاهتمام الكبير بها وبأعمالها، أسمعني والدي أغنية حديث الروح، وشرح لي معانيها، وكيف استطاع رياض السنباطي أن يعبر عنها. كان لوالدي أثر كبير في اهتمامي بالموسيقى، وتشجيعي على العلم والتدريب. وحين طلبت منه شراء كمنجة، قال لي إن أحمد الحفناوي، العازف الشهير في فرقة أم كلثوم، له معاملات مالية مع وزارة الثقافة وأنا أنجزها له، فسأخبره برغبتك في شراء كمنجة وتعلمها. كنت في الصف الأول الإعدادي، وقابلنا الحفناوي في شارع محمد علي، ليساعدنا على شراء كمنجة جيدة. وبالفعل، أخذنا إلى محل لبيع الآلات الموسيقية، واشترينا كمنجة بسعر 120 جنيهاً، بعد أن اختبرها الحفناوي، ووجدها جيدة. وكتب لي إهداء على صورة ما زلت أحتفظ بها".

يرى عبد المجيد أن المدارس في ذلك الوقت، كانت توفر بيئة مشجعة لأصحاب المواهب والاهتمامات الفنية. يوضح: "ذهبت إلى مدرسة الأورمان الإعدادية، والتحقت بفريق الموسيقى، وبدأت في تعلم الكمان، على يد الأستاذين إبراهيم رمضان، ومحمود كامل، والأخير كان من كورال عبد الحليم. تعلمت أصول الكمنجة على أيديهما. وفي المرحلة الثانوية شاركت في المسابقات التي تنظمها المدارس التابعة لمديرية الجيزة التعليمية. كان لدينا عازفان لآلة الكمان، هما الأستاذ نبيل، والأستاذ رفعت، والأخير كان عازفاً في الفرقة القومية للفنون الشعبية، وطلب مني أن أشارك في البرنامج الإذاعي "الغلط فين" الذي كان يقدمه علي فايق زغلول، وشاركت في حفلة لكلية آداب جامعة القاهرة. سمعني زغلول، وطلب مني أن أستمر معه".

العزف في برنامج "الغلط فين" وفر للطالب الهاوي فرصة للعزف خلف مطربين شهيرين، من أمثال ماهر العطار، وعبد اللطيف التلباني، ومحمد العزبي. يتذكر عبد المجيد أن كل العازفين كانوا من خريجي كلية التربية الموسيقية، وكان هو العازف الوحيد الهاوي، لكن سرعة حفظه للألحان وقدرته على تنفيذها أفسحا له مكاناً مع المحترفين.


الموهبة لا تكفي
حديث عبد المجيد عن الهواية والاعتماد على سرعة الحفظ، دفعنا لنسأله عن مدى اعتماده على الموهبة وحدها، وهل اكتفى بها عن التعلم والدراسة؟ ليشدد على أن حب آلة ما لا يكفي للتقدم في مستويات العزف: "في الصف الثاني الثانوي، قرّرت أن أصقل مهاراتي بالالتحاق بقسم الدراسات الحرة بمعهد الموسيقى العربية، وفي الاختبار وبمجرد أن شرعت في عزف "هو صحيح الهوى غلاب".. وافقت لجنة الاختبار على قبولي، ومن الغريب أني لم أستفد كثيراً من المعهد، لأنهم حين وجدوا عزفي جيداً، كلفوني بمهام تدريس للملتحقين الجدد، فانشغلت عن التحصيل، لكني في هذه المرحلة استفدت كثيراً من المؤرخ الموسيقي محمود كامل، وكان يدرّسنا مادتي تاريخ الموسيقى، والتذوق الموسيقي، وكان أول من لفت نظري إلى أهمية الاستماع إلى تلاوة القرآن من المشايخ المجودين، ومدى فائدتها للعازف والمطرب".

يتابع: "في نهاية السبعينيات، وأيام انتخابات نقابة الموسيقيين، كنت أذهب إلى مقهى "التجارة" الذي كان ملتقى للعازفين والفنانين، كي أقترب من الموسيقيين الذين يحضرون لمناقشة انتخابات النقابة، وتأييد الموسيقار أحمد فؤاد حسن، مؤسس الفرقة الماسية ورئيسها، لمنصب النقيب. كنت أشاهد محمود عفت، وحسن أنور، ومحمود القصبجي، وغيرهم من كبار العازفين".

أحب عبد المجيد الفرقة الماسية وعازفيها الكبار. وفي المرحلة الثانوية خطط لدخول كلية التربية الموسيقية، وجعل من الانضمام للماسية هدفاً تمنى أن يتحقق وهو في السنة الثانية بالكلية، لكن مجموع درجاته في الثانوية العامة كان مرتفعاً، فالتحق بكلية الهندسة، واختار قسم العمارة التي رآها قريبة في روحها من الموسيقى. كان الالتحاق بكلية الهندسة فارقاً في حياته. تبخرت آماله في أن يصبح موسيقياً محترفاً متفرغاً للفن.. أصبح من وقتها "المهندس الكمنجاتي"، وسارت الدراسة الهندسية النظامية مع التحصيل الموسيقي الحر في طريق واحد.

يرى عبد المجيد أن اكتساب العازف الشرقي لمهارات غربية أمر ضروري ومفيد، فسألناه عن الظروف التي مكنته من تحصيل هذه المهارات رغم انشغاله بدراسة الهندسة. يقول: "في السنة الثالثة بالكلية، حدثني صديق كان يعزف على آلة الـ"فيولا" أن الخبير والعازف الروسي المهم ديفيد أوسترا وصل إلى كونستفوار القاهرة، وأنه سيحيي حفلاً على مسرح الجمهورية، واقترح علي أن أحضر البروفة، وبالفعل ذهبت، وأعجبت جدا بمستوى العزف، وبالمهارات الغربية، فطلبت من والدي أن أتلقى دروساً في العزف الغربي. وافق والدي، وذهبت إلى الخبير الروسي بجوار قاعة سيد درويش في الهرم، وبدأت دروسي معه.. كانت الحصة بـ 10 جنيهات".

يضيف عبد المجيد: "قويت نفسي في الكمان الغربي. وذهبت مرة لحضور الدرس، فوجدت الموسيقار ياسر عبد الرحمن. كان موعده من 9 إلى 10، وموعدي من 10 إلى 11. فكنت أذهب في التاسعة والنصف، لأشاهد ياسر عبد الرحمن نصف ساعة قبل أن أبدأ درسي. وانتهيت من دروسي مع العازف الروسي بالتزامن مع تخرجي من كلية الهندسة، ثم انشغلت بعدها لفترة بالحياة العملية، سواء في المكتب الهندسي الذي فتحته مع صديق، أو في الكلية التي عينت فيها معيداً، وتناسيت العزف لفترة، واكتفيت بالسماع. لاحقاً، عدت إلى الكمنجة، مقتصراً على العزف في الجلسات الخاصة والعائلية، واستمر هذا الأمر حتى أربع سنوات مضت فقط.

من خلال فيسبوك، تلقى عبد المجيد دعوة من أحد أصدقائه لحضور صالون المنارة، والمشاركة بالعزف مع أعضائه. يوضح: "عزفت معهم نحو 15 مرة، وسعدت بمشاركة عازف الكمان الكبير سعد محمد حسن، الذي انضم إلى فرقة أم كلثوم في سنواتها الأخيرة، وتلقيت منه تشجيعا كبيراً. كان معنا عازف الكمان عبد الرحمن العربي، وأمير عبد العظيم العازف في الفرقة الماسية. وكانت المفاجأة كبيرة حين حضر محمد مصطفى، عازف عبد الحليم، وصاحب الصولو الشهير في أغنية رسالة من تحت الماء، الذي كان السبب الرئيس في حبي للموسيقى عموماً، ولآلة الكمان على وجه الخصوص".

يضيف: "لم أصدق أني أعزف خلف محمد مصطفى. كنت أحضر أيضاً صالون الدكتور خليل الديواني، أستاذ طب الأطفال في جامعة الأزهر. وكان يجتمع فيه عدد من الأكاديميين، المهتمين الموسيقى ويعزفون على آلات مختلفة، وهو صالون بلا جمهور، فكان مستواه راقيا جدا، ومن فترة أقمت صالونا موسيقيا في بيتي، وشارك فيه عدد من الموسيقيين المتميزين، وبعد سنة ونص أوقفته ظروف كورونا". 


مع عبده داغر
يعتبر عبد المجيد نفسه محظوظاً لأن الظروف هيأت له لقاء عازف الكمان الأشهر عبده داغر، والتتلمذ له مدة ليست قصيرة. يقول عن تلك التجربة: "قبل سنوات، كنت أحضر مع والدي عروض فرقة عبد الحليم نويرة. وفي هذه الحفلات، لاحظت عازف كمان يرتدي نظارة سوداء، يقدم كل مرة تقاسيم مبهرة، لمدة تتراوح بين 10 دقائق وربع ساعة. سألت عنه، فعرفت أن اسمه عبده داغر.. كان يقدم فقرته في وجود عازفين كبار، على رأسهم محمود القصبجي، عازف الكمان الشهير بفرقة أم كلثوم. كان داغر يستهل تقاسيمه من مقام آخر أغنية، ويختمها بمقام الأغنية التالية. وحدث أن اقترح أحد أصدقاء ابني أن يعرفني بعبده داغر، وأن أزوره في منزله. وبالفعل، ذهبت إليه، وانبهرت بحكاياته عن الفن والفنانين. حكايات عن أم كلثوم وأعضاء فرقتها، وعن كثير من المطربين".

يواصل عبد المجيد: "ثم قرر مركز تنمية المواهب تأسيس فصل دراسي خاص لعبده داغر، يعلم فيه العازف الكبير الأجيال الجديدة، وبدأنا في تلقي دروس داغر، واعتمدت هذه الدروس كلها على مؤلفاته. كان التلاميذ متنوعين ومتفاوتين في أعمارهم تفاوتا كبيراً".

يمثل محمد عبد المجيد جزءاً من ظاهرة التعلم الموسيقي الحر في مصر، وهي ظاهرة تمحورت خلال الأربعين سنة الماضية حول شخص عبده داغر الذي فتح منزله للراغبين في التعلم والتطور، وهو ما استوجب أن نسأله عن الذي اكتسبه من عبده داغر.

يقول: "كان متفوقا في جانب التقاسيم، ومؤلفاته تمثل جزءاً مهما من مناهج الدراسات العليا في المعهد العالي للموسيقى العربية. بيته مفتوح دائماً للتعليم، لأكثر من نصف قرن، ومن دون مقابل.. أهم ما يورثه لتلاميذه هو تصفية الحرف الموسيقي، وتحصيل تقنيات "العزف النظيف". وبلغت سعادتي الذروة حين دعيت للمشاركة في حفل سيحييه عبده داغر في مسرح معهد الموسيقى العربية. كنت سعيدا جدا بالعزف مع الرجل الذي علم أجيالا من الموسيقيين".

رغم الانغماس في السلك الأكاديمي، والانشغال بأعمال التدريس لطلبة كلية هندسة المطرية التابعة لجامعة حلوان، يصطحب محمد عبد المجيد في بعض الأحيان آلته الأثيرة إلى الجامعة، ويقدم لطلبته بعض المقاطع الشهيرة لأم كلثوم أو عبد الحليم حافظ. يقول: "علاقتي بالطلبة دائما جيدة، وأعتبرهم إخوتي، فيطلبون مني إحضار الكمنجة، وأعزف لهم فيلتفون حولي وهم سعداء. وقبل نحو 5 سنوات، ذهبنا في رحلة إلى العين السخنة، والتف الطلبة حولي يستمعون للعزف، وبعدها كتب الطلبة سيلا من التدوينات على مواقع التواصل، يعبرون فيها عن انطباعاتهم تجاهي، ويقارنون بيني وبين غيري من الأساتذة، وحدثت ضجة على فيسبوك، وفوجئت بعدد من الاتصالات من برامج تلفزيونية مختلفة كلها ترغب في لقائي ومحاورة الدكتور الذي يعزف لطلبته".

المساهمون