محمد عبده وأبو بكر سالم وطلال مداح: هذا من زمان

محمد عبده وأبو بكر سالم وطلال مداح: هذا من زمان

15 مايو 2022
رحل الفنان أبو بكر سالم عام 2017 (محمد محجوب / فرانس برس)
+ الخط -

أخيراً، عاد الفنان السعودي، محمد عبده (1949)، إلى دائرة الاهتمام. هذه المرة من بوابة الفنانين طلال مداح (1940 - 2000) وأبو بكر سالم (1939 - 2017). وبعد عاصفة نقد انهالت عليه من جمهور يمني واسع، انحنى، ونشر فيديو يعتذر فيه عما صدر منه، مشيراً إلى أنهما أستاذان كبيران. لكن الاعتذار ليس كافياً، ولن يكفل بإغلاق باب قد فُتح، بل استحضر معه حقلاً من الألغام، لطالما سار فيه الوسط الفني السعودي، في مفترق طرق تأكيد هويته.

بدأت القصة على فضائية MBC السعودية، حين أصدر محمد عبده حكماً، يقضي بحبس الغناء الغزلي في النسيان، لينسف إرث فنانين غيبهما الموت. وقال إن ما يبقى هو الغناء الوطني، متسائلاً، باستنكار: "ماذا قدّما للوطن من أغان؟".

وفي هذا السياق، وصف لحن أغنية أبو بكر، "يا بلادي واصلي"، بأنها مثل شخص "يدف عربية خربانة". بينما أغنية مداح "يا وطني الحبيب"، التي طلب من المحاور تذكيره بها، أكد أنها "مسروقة".

وبعيداً عن لحن الأغنيتين، أغفل صاحب "رسائل" أنه يبني تفوقه، بنسف تاريخه الفني القائم على أغاني الغزل. وبالتالي، حصر الفن بحظوة نالها لدى النخبة السعودية الحاكمة أكثر من غيره. بينما ما يدوم في الفنون، حقيقةً، هو ما يبقى في ذاكرة الناس، حين تتبدّل الحكومات، والظروف السياسية.

مثّلت ردود الفعل على تصريحات عبده الجزافية، عامل استفزاز كبير للجمهور، الذي أعلن رفضه لما ورد في حديث محمد عبده. على أن هذا الجمهور تعامل بدافع وطني، مؤكداً أيضاً أن أغاني الغزل هي ذاكرته. ففي اليمن، تركز السخط حول ما قيل بحق أبو بكر سالم، الذي يعدونه فنانهم، وجزءاً من وجدانهم الوطني، رغم أنه توفي حاملاً للجنسية السعودية.

موسيقى
التحديثات الحية

وفق ذلك، انبرى المدافعون في اليمن، يؤكدون القيمة الفريدة لصوت أبو بكر سالم، أو ما اعتبره البعض نقطة تفوق حاسمة لصاحب "ما علينا يا حبيبي"، وقدرته على التلاعب بصوته وتلوينه في جوابات عالية، وكذلك في قرارات خفيضة. كما أنه لا يمكن استبعاد علاقة سياسية حساسة بين البلدين المتجاورين، حرّكت هذا الاستفزاز.

في السعودية، جرى التعامل مع الفنانين الثلاثة كونهم سعوديين. لكن ردود الفعل، استعادت سياقاً يعود أثره إلى سبعينيات القرن الماضي؛ أي بداية التنازع على ساحة الغناء السعودي، بين محمد عبده وطلال مداح. وكان الأخير محور تصديهم للأول. وبين الاختلافين، كان هناك ثالث يلتحق في معرض النقد؛ فجميعهم حملوا الجنسية السعودية، وتركوا تأثيراً لا يمكن إغفاله.

وما هو لافت، أن الثلاثة ينتسبون إلى اليمن مع اختلاف تكوينهم، واتجاهاتهم الغنائية. فأبو بكر سالم، ولد في مدينة تريم في حضرموت. وبدأ انطلاقته الغنائية شاباً من مدينة عدن، التي غادرها في الستينيات. ما يعني أن شخصيته الغنائية تأسست في اليمن، وظل مُرتبطاً بها، خصوصاً على المستوى الفني؛ إذ ارتبطت أغانيه وأساليبه اللحنية باللون الحضرمي، حتى آخر حياته.

على المقلب الآخر، ولد محمد عبده في اليمن أيضاً، وتحديداً في منطقة المراوعة القريبة من ميناء الحديدة. وخلافاً لأبو بكر، غادرها صغيراً إلى الحجاز. وهذا ساعده على الاتصال مبكراً بالغناء الحجازي والبدوي، وتشرب مواويله. كما تحددت ملامحه وفق هوية سعودية.

ولا ننسى ارتباط عبده بالتراث اليمني، وهو ما أشار له في لقاء قديم، موضحاً أنه يجري في دمه، نظراً إلى جذوره اليمنية. لكن، حتى في استعارته ألحاناً من ذلك التراث، ظل مواظباً على تقديمها في نسيج سعودي. على سبيل المثال، أغنية الفنان اليمني الراحل، محمد مرشد ناجي، "ضناني الشوق"، التي نسب لحنها لنفسه.

من جهة أخرى، يُعتبر الفنان طلال مداح، أول من برز على ساحة الغناء السعودية. ولأنه ولد في مكة، نشأ تكوينه على تلك الألوان؛ أي الحجازية، وبدرجة أقل البدوية. لكنه مال بدرجة أكبر إلى المدرسة المصرية. وضمن أسلوبه الغنائي وألحانه، نلاحظ كثيراً من عناصر الأغنية المصرية. حتى أنه تعاون مع كبار المُلحنين المصريين، مثل محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي.

في الستينيات، بلغت هيمنة صاحب "مقادير" على الغناء السعودي، حداً لم يسمح لأحد سواه بالحضور أو التنافس معه. ما دفع بفنانين، مثل عمر كردس وطارق عبد الحكيم، إلى ترك الغناء، والاكتفاء بالتلحين. ولعل ذلك سبب احتضانهما محمد عبده، خصوصاً في أول مشواره إبّان عقد الستينيات.

لاحقاً، سيتحدث محمد عبده بأن ضحايا طلال مداح كُثر. وبنوع من الفخر، سيضيف بأنه الناجي الوحيد آنذاك. وخلافاً لمداح، عبده ابتعد عن المدرسة المصرية. لكن، على الرغم من ذلك، ظلت هذه المدرسة تُمثل مصدراً واسعاً للاقتراحات اللحنية في العالم العربي. لكنه حافظ في أسلوبه على طابع جغرافيته السعودية. أي أنه كان أكثر سعودة من الآخر.

ويمكن تفسير ذلك في أمرين؛ أولهما أن شخصية صوته لا يُناسبها هذا الطابع. وفي نفس الوقت، كان من شأن ذلك أن يلقيه في مفرمة طلال مداح السحرية. في السبعينيات، فرض محمد عبده نفسه كمنافس حقيقي لطلال مداح. وكان ذلك موازياً لفترة شهدت فيها السعودية ازدهاراً نتيجة الطفرة النفطية. وليس بعيداً أن ذلك تماهى مع حاجة مثلها محمد عبده؛ وهو تأكيد الهوية السعودية.

لكنها فترة أنتجت بعضاً من أفضل الأعمال السعودية؛ مثل "مقادير" و"زمان الصمت" لطلال مداح، وكذلك "أبعاد" و"رسائل" لمحمد عبده. وعرفت الساحة الغنائية، وقتها، جمهوراً متعصباً منقسماً بين الاثنين، أشبه بمشجعي كرة القدم، واستمر ذلك الأمر قرابة ثلاثة عقود.

لم يقتصر الأمر على الجمهور؛ فالاثنان شهدت علاقتهما دسائس خفية وصراعاً على الألحان. على سبيل المثال، أخذ طلال مداح أغنيتي "مقبول منك مقبول" و"معازيل". أغنيتان كان مقرّراً أن يغنيهما محمد عبده. وفعل الآخر الأمر نفسه، باستيلائه على أغنيتي "لنا الله" و"ليلة خميس"، اللتين كانتا لخصمه.

يمكن أن يكون الفنان طلال مداح هو الأكثر ارتباطاً بالسعودية، باعتبارها مكان ولادته. لكن جذوره يمنية، فيما هناك تضارب حول ما إن كان والده أو جده هما من انتقلا إلى مكة. فرواية مشكوكة تقول إنه ولد في حضرموت، وانتقل طفلاً مع والده إلى مكة.

ويأتي ذلك ضمن تنازع يمني سعودي حول الغناء. وعلى سبيل المثل، تنسب مدونة ويكيبيديا ميلاد محمد عبده إلى مدينة جازان. خلافاً لمحل ولادته الحقيقي في محافظة الحديدة اليمنية. بينما عجز ناشطون يمنيون عن إدخال تعديلات على ويكيبيديا بشأن معلومات حول أبو بكر سالم، بإضافة ما يُشير إلى أصوله اليمنية، رغم أنه جرى تعريفه بأنه "فنان سعودي من أصول حضرمية".

لكن بحسب ما غناه أبو بكر، لا يمكن إنكار هويته الغنائية، التي ظلت على صلة باليمن. وهذا جعله خارج المنافسة على القاعدة الغنائية السعودية، إذ كان جمهوره في السعودية، أغلبه من اليمنيين.

لذا، حين سُئل طلال مداح في الثمانينيات، ما إن كان محمد عبده منافساً له، رد سريعاً "هذا من زمان". أما محمد عبده؛ فأجاب بتواضع مقصود بأن طلال مداح أستاذ، وهو خارج أي منافسة. كانت المنافسة وقتها في الذروة، ثم ها هو أبو نورا، يعود ليُحاكم فنانين بعد رحيلهما، بسيف الانتماء للوطن، ليحز رقبة الفن نفسه.

المساهمون