متمرّدات أيسلندا في "سالونيك 2025": وثائقيّ سلس عن حدثٍ عظيم

12 مارس 2025
نساء أيسلندا: التحريك جزءٌ من الحكاية (الموقع الإلكتروني لـ"سالونيك الوثائقي 2025")
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُعرض فيلم "اليوم الذي وقفت فيه أيسلندا ساكنةً" في مهرجان سالونيك الدولي للأفلام الوثائقية، مسلطاً الضوء على إضراب النساء الأيسلنديات في 24 أكتوبر 1975 للمطالبة بالمساواة، مما أدى إلى شلل اقتصادي واجتماعي في البلاد.
- الفيلم من إخراج باميلا هوغان، يجمع بين الوثائقي والدرامي، ويستخدم التحريك لتوثيق الحدث التاريخي، ويبرز تأثيره في انتخاب أول امرأة رئيسة للبلاد، فيغْديس فينبوغدوتّر.
- يُقدم الفيلم مزيجاً من السرد التاريخي والمشاعر الإنسانية، مع تعليقات ساخرة، ويبرز أهمية النضال المستمر لحقوق المرأة.

 

أنْ يُعرض فيلمٌ عن نضال نساء من أجل حقوق مهدورة لهنّ، في مهرجان دولي معنيّ بالسينما الوثائقية، في اليوم نفسه الذي يُحتفل فيه بالمرأة (8 مارس/آذار)، فهذا يعني احتفالاً حقيقياً وعملياً، بعيداً عن خطابية وانفعال، بالمرأة نفسها، لا بعيدها فقط. والفيلم، إذْ يستعيد تجربة أيسلندية، ستحتفل قريباً بذكرى مرور 50 عاماً على حدوثها (24 أكتوبر/تشرين الأول 1975)، يقول أفعالاً ميدانية تُترجم معنى النضال من أجل حقّ. أمّا عرضه راهناً، فيترافق مع ارتباكٍ قاسٍ وعنيفٍ تعيشه دول عربية وغربية كثيرة، جزءٌ منه (الارتباك) مرتبط بالمرأة نفسها، وبهمومها ومشاغلها وانكساراتها، وبمحاولاتها الدائمة نيل حقٍّ لها، يُفترض به أنْ يكون لها من دون نضال.

"اليوم الذي وقفت فيه أيسلندا ساكنةً" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي The Day Iceland Stood Still)"، للأميركية باميلا هوغان، يروي وقائع اليوم التاريخي ذاك، بلقاءاتٍ مع نساءٍ يُشاركن فيه وهنّ شابات حيويات، يرفضن واقعاً ضاغطاً عليهنّ، ويواجهن صانعي هذا الواقع، وينتصرن لأنفسهن وبلدهن ومجتمعهن، ولأولادهن (فتياتٍ أساساً، وصبياناً أيضاً)، إذْ يصنعن فيه انقلاباً جذرياً ضد سلطة ذكورية متحجّرة، سيكون صعباً على الممسكين بها وممارسيها قبول نتائج ذاك الانقلاب المنشود، قبل رضوخهم لنتائجه.

والفيلم، المشارك في برنامج "آفاق مفتوحة (أفلام طويلة)" في الدورة الـ27 (6 ـ 16 مارس/آذار 2025) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للأفلام الوثائقية"، يكشف تفاصيل ميدانية، من دون التنصّل من انفعالٍ وشغفٍ ورغبةٍ وحيوية وحماسة، وهذا كلّه غير عقلانيّ لكنّه مهمّ وأساسي، في نفوس نساء ينتفضن على تفكير أبوي يمنع على امرأة أنْ تُصبح قائدة طائرة، فإذا بامرأةٍ، بعد الانقلاب التاريخي الأكثر سلمية ومدنية، تُصبح رئيسة بلدٍ يُعتبر من أكثر البلدان رخاء وتقدّماً (رغم جهود نسائية مستمرّة إلى الآن، من أجل مزيدٍ من تحسين الحال الراهنة)؛ ويرفض أنْ تتخلّى المرأة عن واجبٍ مهنيّ، لأنّ الرجل غير مُدرك وغير مُتقن مفردات الحياة اليومية في عائلةٍ له ومعه: فيغْديس فينبوغدوتّر (1930)، التي تظهر في أشرطة تسجيلية لحظة اليوم المجيد، يُسمّى "يوم عطلة/إجازة"، بشخصية قوية توحي بصرامة، وتخطب في الجماهير بلغة واضحة ومباشرة تُضاعف من حماسة اللحظة، تُصبح أول امرأة رئيسة للبلد، بين عامي 1980 و1996.

"مغادرة 90 بالمائة من نساء أيسلندا وظائفهنّ ومنازلهن (في ذاك اليوم التاريخي) دافع لأيسلندا إلى الاستسلام. (المغادرة) دافعةٌ البلد إلى طليعة النضال العالمي من أجل المساواة بين الجنسين"، بحسب تعريفٍ لـ24 أكتوبر/تشرين الأول 1975. والفيلم؟ إنّه قصة حقيقية لـ12 ساعة، ستُطلق ثورة في البلد، وتصنع تغييراتٍ مُحقّة ومطلوبة. في ذاك اليوم، تُقرّر نساء كثيرات التوقّف عن العمل، لإعلان واقعٍ تتبيّن معالمه سريعاً: المرأة فاعلةٌ بقوّة في اقتصاد البلد ومجتمعه، وتوقّفها عن العمل، ساعات قليلة، شلل لاقتصاده ومجتمعه. أمّا سبب الإضراب/يوم الإجازة، فكامن في أنّ ممنوعات عدّة تشعر بها المرأة يومياً، كأنْ يُرفض لها العمل في مزرعةٍ قبل وفاة زوجها، إلى التفاوت في الأجور بينها وبين الرجل في مهن مختلفة، وممارسات توظيفية غير عادلة.

 

 

أمّا فيلم باميلا هوغان، فمزيج من حالاتٍ بشرية وأنواع سينمائية عدّة. فالصرامة النسائية في اختيار لحظةٍ، تريدها النساء تعبيراً واضحاً وصارخاً عن رفضٍ ومواجهة، تتّسم بلطفٍ وسخرية، وبتعليقات مُثيرة للضحك تقولها نساء يستعدن ذاك الماضي، فيروين حكايته كأنّه راهنٌ. واستعادة التفاصيل، المعطوفة على مشاعر، تترافق ووقائع يُشتَغل على تصويرها وسردها بفنّ التحريك، الذي سيكون وثيقة/شهادة بصرية لمسائل غير مُصوّرة بصرياً وغير مُسجّلة سمعياً حينها. أمْ أنّ التحريك امتدادٌ فني وثقافي لفعلٍ تغييري جذري، يُراد له (التحريك) تخفيفاً لثقل الإنجاز التغييري؟

في مقابل الثقل التاريخي الحاصل، كمعلومات ومشاعر وتفاصيل وحكايات (رغم نكات ساخرة وتعليقات أكثر سخرية، وكلّها مُضحكةٌ وصائبة)، يصنع التوليف (الأميركية كايت تِفِرنا) بناء مبسّطاً لسردٍ مليء بمعطيات ومعلومات، والتحريك (الأيسلندي يُوِيل أورلوف) تنفيسٌ لذاك الكمّ من التاريخ والذكريات، ومن الذاتي الفردي، والجماعي العام. أمّا النساء، المختارات ليكنّ النواة الدرامية والحكائية للنصّ السردي، فمتمتّعاتٍ بحضور طاغ ومُحبّب أمام الكاميرا (الأيسلندية هْرافْنلدر غوناسْدوتّير)، وناطقات باللغة الإنكليزية بطلاقة وبساطة وعمق ووضوح.

لكنّ "اليوم الذي وقفت فيه أيسلندا ساكنةً" يُتيح لرجال كلاماً وتعبيراً وشرحاً، كما لبنات بعض المناضلات حينها. للرجال أنْ يقولوا ويستعيدوا، وبعضهم حيٌّ إلى الآن. وللبنات مساحةٌ، وإنْ تكن قليلة، ليُعبّرن عن امتنانٍ بما فعلنه أمهات ونساء، ماضياً. فالأهمّ أنّ باميلا هوغان توثِّق سينمائياً تلك اللحظة، وأنّ نساء اللحظة يشهدن المرحلة وخفاياها ومساراتها، وأنّ الجيل اللاحق عليهنّ حاضرٌ بدوره، وهذا كلّه بلغة سينمائية ترتكز على التقنيات التقليدية للوثائقي (لقاءات مع الشخصيات، صُور فوتوغرافية ووثائق، وتسجيلات بصرية، إلخ)، من دون صرامةٍ فنية، فالتحريك بديعٌ في تداخله مع الواقعيّ، كامتدادٍ له، وكتفسير.

المساهمون