استمع إلى الملخص
- يضم الفيلم شخصيات مثل جومانة حداد وبيرلا جو معلولي، اللتين تمثلان نماذج مختلفة من المجتمع اللبناني، حيث تُظهران حماساً للانتفاضة وصعوبة في التغيير، مما يخلق حواراً غير مباشر يعكس الحالة الجماعية للمجتمع.
- يُعرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي كإضافة توثيقية لذاكرة وواقع لبنان، مشجعاً على نقاش نقدي حول الوضع الحالي وأهمية الذاكرة الجماعية.
بعد التفجير المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020)، يقول جورج بلسان ميريام الحاج، في "متل قصص الحب" (2024): "خسرنا الحرب". فجورج مقاتل مسيحي، له دورٌ في "حادثة" بوسطة عين الرمانة (اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، 13 إبريل/نيسان 1975)، يفقد قدمه اليُمنى ذات يوم، ويحمل في ذاته غضباً مكتوماً، وادّعاءً مُتوقّعاً، إذْ يُردِّد مراراً أنّ لديه كنزاً من الحكايات التي لن يرويها الآن، لأنّها تؤذي أفراداً ودولاً.
"خسرنا الحرب". إنّها أوّل ما يتفوّه به جورج مفرج للحاج، التي تقول إنّه، منذ التفجير (تسمّيه انفجاراً) يُصبح مجدّداً أبو الليل (لقبه في أعوام تلك الحرب الأهلية، غير المنتهية في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990): "لا ينام. يبقى مستيقظاً. مُنتظراً. 24/24". تقول: "كأنّ الانفجار موجّه ضدّه". تستعيد قولاً آخر له: "لا شيء أحَطّ مما بلغناه اليوم. الله غاضبٌ علينا". لكنّها تتساءل، بعاميّة مُحبّبة ونبرة هادئة لن تكون أقلّ قهراً وغضباً مكتومين فيها أيضاً: "الله؟ أمْ الأحزاب التي حاربْتَ معها ولها؟". تتّهمه بفشل "ثورتنا" ("انتفاضة 17 أكتوبر"، 2019). ثم: "بالتأكيد، لم أقلْ له شيئاً كي لا أجرح مشاعره. (لذا) سَكَتُّ".
لن يكون جورج شخصية أساسية وحيدة في "متل قصص الحب"، المعروض أولاً في "بانوراما" الدورة الـ74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي". هناك أيضاً جومانة حدّاد (شاعرة ومُرشّحة في الانتخابات النيابية عن إحدى دوائر بيروت، قبل أنْ تُسقَّط عمداً كما يُقال، في 6 مايو/أيار 2018)، وبيرلا جو معلولي (فنانة وناشطة في الانتفاضة). كلّ فردٍ يُمثِّل نموذجاً، يسهل تبيان التفاوت بينها (النماذج الواقعية اللبنانية الثلاثة)، رغم أنّ الانتفاضة تلك تجمع حداد ومعلولي. فجورج يملك أسراراً تؤذي أفراداً ودولاً (!)، لكنّه لن يُعلنها، ليس خوفاً بل... (لا إجابة واضحة). وجومانة تنشط عشية الانتخابات، وتنخرط في الانتفاضة، لكنّ غالبية كلامها غير عمليّ، خاصة في كيفية إسقاط نظامٍ فاسدٍ وناهب وقاتل. وبيرلا تغلبها حماسة مولودة من قهرٍ تبوح به بحدّة وقسوة، لكنّها تُدرك أنّ شيئاً ما لا يزال "عفناً في الدنمارك".
التوليف (أنيتا بيريز، توليف إضافي: ستيفاني سيكارد) يوازن بين ما ترويه الشخصيات وظهورها أمام الكاميرا (تصوير: جهاد سعادة وميريام الحاج ومحمد صيام)، مع بثّ لقطات تلفزيونية (حوار مرسيل غانم مع حداد مثلاً) بما يؤكّد صوابية تمثيل حداد لنموذج "المثقف" الذي يريد نضالاً "مع الشعب"، لكنّ نضاله كلامٌ عامّ لا أكثر. حماسة معلولي حيوية وصادقة، فهذا حاصلٌ في أسابيع أولى من انتفاضة، تعجز عن مواجهة تنانين سلطةٍ فاسدة وناهبة وقاتلة، وسبب العجز، بحسب جورج، غياب قائد لها يتحاور مع "خصومه". كأنّ التوليف، غالباً، يُصبح حواراً غير مباشر بين الشخصيات الثلاث، وهذا يُسهِّل متابعة أحوالٍ فردية، تعكس شيئاً من حالة جماعية.
لجورج تاريخٌ تصنعه حربٌ أهلية وسلمٌ هشّ وناقص أيضاً. ولجومانة تجربة في ثقافة وصحافة وسياسة غير متمكّنة من تأثيرٍ في وعي ومعرفة واشتغال. ولبيرلا راهنٌ تنغمس كلّها فيه، لكنّها تُدرك أنّ العفن غير سهلٍ القضاء عليه، في بلدٍ كهذا. ما تفعله ميريام الحاج معهم لن يحول دون قول، ذاتيّ وحسّاس وواقعي وشفّاف، عن سيرةٍ لها في راهنٍ يتزامن وراهن معلولي، وفي ذاكرةٍ، لجورج فيها فصولٌ وحكايات. تتّصل بعمّها رياض (الشخصية الأساسية في وثائقيّها السابق "هدنة"، 2015) هاتفياً مرّتين، لسؤال أو لرغبةٍ في كلامٍ وإنْ يكن سريعاً. تبوح له بشيءٍ حميمي، عن فشل في حبّ، فيكون ردّه واقعياً بأنّ فشلاً كهذا أخفّ بكثير من أنواع فشل أخرى.
بعد التفجير المزدوج في مرفأ بيروت، تقول الحاج: "هناك أناسٌ يخبرون بأنّ أجسامهم بعد الانفجار تظلّ تبزق زجاجاً لسنتين. وهناك أناسٌ قبل هؤلاء تظلّ أجسامهم تبزق شظايا الحرب منذ 30 سنة". هذا غير عابر. هذه ليست مقارنة. فالتفجير المزدوج حربٌ أهلية ضد شعبٍ، لا بين أحزاب/طوائف/قبائل، ستكون الغالبية الأبرز من ضحاياها أناساً من الشعب، بل بين نظام فاسد/ناهب/قاتل وجزء كبير من هذا الشعب نفسه. نبرة الراوية/الحاج هادئة من دون إيهامٍ بتغييب ما في طياتها من قهر وخذلان وخيبة وآلام. متابعة نصّها الوثائقي يؤكّد هذا، مع أنّ المدّة (110 دقائق) قابلةٌ لتقليصٍ لن يُسيء إلى ما يرويه "متل قصص الحب"، الذي يعرض مساء اليوم في "المعهد الفرنسي" في بيروت، في النسخة الـ19 (10 ـ 21 يناير/كانون الثاني 2025) لـ"شاشات الواقع: لقاء بيروت للفيلم الوثائقي". خاصة أنّ مشاهد الانتفاضة اللبنانية أكثر من كافية، وإنْ يكن المقصود من إطالة مدّتها تنبيه غير اللبناني إلى تفصيل أساسي.
كلّ كلامٍ تتفوّه به الشخصيات الثلاث يحرِّض على نقاشٍ نقديّ، لكنّه في الوقت نفسه يُعبِّر عن حالة شبه جماعية. فهذا الكلام يتردّد في يوميات بلدٍ وأناسٍ، والحسم فيه جائرٌ، وعدم التوافق مع معظمه غالبٌ.
"متل قصص الحب" (أو "يوميات من لبنان" كما العنوان الإنكليزي) إضافة توثيقية عن ذاكرةٍ وراهن، يُفترض بهما ألا يغيبا عن تفكير ومعاينة وتدقيق وقراءة وبوح.