استمع إلى الملخص
- تواجه صناعة الموسيقى في فلسطين تحديات بسبب غياب التشريعات المتعلقة بحقوق النشر. تسعى "نيست" لمعالجة هذه الفجوة عبر مراحل تشمل المعرفة المهنية والإنتاج والاحتضان، مما يتيح للفنانين بناء مسار مهني مستقر.
- امتدت جهود جفرا للعمل الإنساني، خاصة خلال أزمات غزة، بتنظيم حملات موسيقية. تطمح "نيست" لتكون منصة عربية شاملة تحتضن الفنانين وتبني صناعة موسيقية عربية مشتركة.
منذ انطلاقتها عام 2010، أثبتت مؤسسة جفرا للإنتاج الموسيقي حضورها في المشهد الثقافي الفلسطيني، ليس من خلال إنتاج الأعمال الفنية فحسب، بل عبر مساهمتها في تأسيس بنية تحتية ثقافية وموسيقية تنبع من الواقع الفلسطيني، وتطمح إلى تجاوزه نحو فضاء عربي أشمل. وفي هذا السياق، جاءت "نيست" (حاضنة الموسيقى) مبادرةً استراتيجية تهدف إلى تمكين الفنانين الفلسطينيين والعرب من تطوير مساراتهم المهنية، وبناء صناعة موسيقية مستدامة تنطلق من الجذور المحلية وتتطلع نحو العالمية.
"جفرا" لم تكن يوماً مؤسسة إنتاج تقليدية، بل شكّلت على مدار أكثر من عقد مختبراً حيّاً للتجريب الفني، وبيئة خصبة لولادة المبادرات الجديدة، التي تستجيب إلى حاجات الفنانين وتحوّل التحديات البنيوية فرصاً حقيقية، ولعلّ "نيست" تُجسد هذا التوجه بوضوح، إذ انطلقت فكرةً بسيطةً من قلب الواقع الفلسطيني، وتحوّلت خلال ثلاث سنوات منصةً إبداعية ذات طابع إقليمي، تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفنان، والسوق، والمجتمع.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول المدير العام لـ"جفرا"، سامر جرادات، إن فكرة وجود "صناعة موسيقية" في فلسطين لا تزال في طور التشكّل، ففي ظل غياب الدولة بوصفها إطاراً مؤسّسياً ناظماً، تبقى المبادرات الثقافية عرضة للتحديات القانونية، والاقتصادية، والتنظيمية، ويشير جرادات إلى أن غياب التشريعات المتعلقة بحقوق النشر، والعائدات الرقمية، وتنظيم العلاقات المهنية، يترك الفنان الفلسطيني في حالة هشاشة، ويضعف قدرته على المنافسة والانخراط في السوق العالمية.
تتعمّق الأزمة، بحسب جرادات، بفعل الفجوة الواضحة بين التعليم الأكاديمي والممارسة المهنية؛ ففي حين توفّر بعض الجامعات والمعاهد الفلسطينية برامج في الموسيقى، إلّا أن هذه البرامج غالباً ما تكون منفصلة عن تطورات السوق العالمية، ولا تزوّد الطالب بالمهارات المهنية والتقنية اللازمة لخوض غمار الصناعة.
يضيف جردات: "هذا الانفصال بين النظرية والممارسة يُصعّب بناء مشهد موسيقي فلسطيني معاصر، يواكب التطورات التقنية والفنية، ويعبّر في الوقت نفسه عن هوية ثقافية أصيلة. من هنا، كانت الحاجة واضحة إلى برنامج مثل "نيست"، يعالج هذا الخلل عبر تقديم معرفة عملية شاملة، وربط الفنانين بسوق العمل الحقيقية، محلياً وعالمياً".
يوضح جردات أن "نيست" تقوم على ثلاث مراحل أساسية، صُمّمت بتكامل لتأهيل الفنانين وتمكينهم من بناء مشروعهم الفني باستدامة؛ المرحلة الأولى هي المعرفة المهنية، إذ يحصل المشاركون على تدريبات مركّزة تشمل مختلف جوانب الصناعة الموسيقية، من التسويق، والعلاقات العامة، وإدارة الحقوق، إلى النشر والتوزيع والتعامل مع المنصات الرقمية، والهدف هو تمكين الفنان من فهم شامل لبنية الصناعة، أما المرحلة الثانية فهي الإنتاج والتجريب، فتُنظَّم مخيّمات موسيقية تجمع بين فنانين فلسطينيين ودوليين، للعمل على مشاريع مشتركة تعكس التنوع الثقافي والتقني، إذ تُختبر الأفكار على أرض الواقع، في بيئة إبداعية تفاعلية.
والثالثة هي الاحتضان طويل الأمد، وهو ما يميّز "نيست" عن العديد من المبادرات المشابهة، فكل مشروع فني واعد يحصل على مرافقة مهنية تمتد لثلاث سنوات، تشمل دعماً فنياً وإدارياً، وتشبيكاً محلياً ودولياً، ما يتيح للفنان بناء مسار مهني مستقر.
منذ إطلاقها، تمكنت "نيست" من الوصول إلى مجموعة واسعة من الفنانين من مختلف المناطق الفلسطينية، بما في ذلك الجولان السوري المحتل، ومدن الداخل الفلسطيني، والضفة الغربية. ووفق بيانات الدورتَين الأولى والثانية، فإن 40% من المشاركين كنّ فنانات، ما يعكس توجه الحاضنة نحو تمثيل متوازن وشامل هدفاً من أهداف الحاضنة، بحسب جردات.
نجاحات "نيست" لم تتوقف عند حدود فلسطين، فقد توسعت الحاضنة إلى الأردن بالتعاون مع مهرجان عمّان للجاز والمعهد الفرنسي، وهي الآن في طور إطلاق برامجها في تونس، وتؤكد هذه التوسعة البعدَ الإقليمي للمبادرة، ورغبتها في المساهمة في بناء صناعة موسيقية عربية مشتركة، تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية.
تتمتع "نيست" بشبكة شراكات استراتيجية واسعة تضم أكثر من ثلاثين مؤسّسة فنية وموسيقية من مختلف أنحاء العالم، تشمل شركات نشر وتوزيع، ومهرجانات دولية، وصالات عرض. هذه الشبكة توفّر للفنانين المشاركين فرصاً للانخراط في المشهد الموسيقي العالمي، عبر جولات عروض، وعقود إنتاج، ومشاركات في فعاليات دولية.
عرج جردات على أبرز النماذج التي خرجت من "نيست"، وهي تجربة الفنان الفلسطيني فارس إسحاق، عازف الناي من بيت لحم، الذي استفاد من الحاضنة في بناء مسار مهني مميّز، أثمر عن مشاركات دولية، وتوقيع عقود مع ناشرين عالميين، إضافة إلى تنفيذ مشاريع موسيقية رائدة، وجولات موسيقية في بلدان أوروبية عدّة.
يشدّد جرادات على أن "نيست" ليست مجرد منصة تدريب، بل نموذجَ إنتاج ثقافي يستثمر في المستقبل، فالفنان الذي يمرّ بمراحل الحاضنة، لا يخرج بأغنية أو عرض فحسب، بل بمسار مهني متكامل، يمتلك فيه أدوات الاستمرار والتطوّر، مشيراً إلى أن البنية التحتية التي تبنيها الحاضنة تهدف إلى إعادة استثمار العائدات داخل الدول المنتجة، بدلاً من تسرُّبها إلى الخارج، ما يخلق دورة اقتصادية داخلية تسهم في بناء صناعة قوية ومستقلة في فلسطين.
انطلقت "نيست" من إحدى أكثر البيئات تحدياً للعمل الثقافي، لكنّها اليوم تتوسع لتشكّل نقطة التقاء إقليمية، ومنصة اختبار حيّة للتجارب الموسيقية في العالم العربي. توازياً، تطوّر مؤسّسة جفرا مشاريع أخرى داعمة، منها برنامج TAMI الأكاديمي الذي يمنح دبلوماً عالياً في التكنولوجيا والموسيقى، ويرفد القطاع بكفاءات قادرة على قيادة التحول الرقمي والفني.
لم يقتصر دور "جفرا" على الجانب الفني، بل امتد ليشمل العمل الإنساني، خاصة خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد تعاونت المؤسّسة مع فرقة الثلاثي جبران لتنظيم حملة موسيقية عالمية، جمعت تبرعات لصالح الهلال الأحمر الفلسطيني من خلال 32 عرضاً موسيقياً أُقيمت حول العالم.
وساعدت "جفرا" عدداً من فناني غزة في العثور على أماكن آمنة خارج مناطق الحرب، ليواصلوا عملهم الفني رغم الظروف القاسية، ويشارك بعضهم اليوم في برامج "نيست"، في إصرار واضح على استخدام الفن بوصفه أداةً للبقاء والمقاومة.
يطمح جرادات إلى أن تتحول "نيست" منصةً عربيةً شاملةً تحتضن الفنانين من مختلف بلدان المنطقة، وتمنحهم الأدوات لصياغة مستقبلهم الفني، ويؤكد أن الطريق إلى بناء صناعة موسيقية عربية يحتاج إلى رؤية إقليمية، تتخطى البرامج القصيرة والتدخلات المانحة، نحو نماذج احتضان طويلة الأمد ومبنية على الشراكة والمعرفة والتجربة.
يقول جرادات: "نحن لا نرى الموسيقى ترفاً أو ترفيهاً، بل وسيلةً لبناء المجتمع، ورمزاً لتحرّر ثقافي طويل الأمد. نريد أن تُسمع الموسيقى الآتية من رام الله وصفاقس والرباط في باريس وبرلين، ليس بوصفها حالةً استثنائيةً، بل بوصفها جزءاً من مشهد عالمي غنيّ، يعكس تنوعنا وإبداعنا".