مارادونا في عين كوستوريكا... ليس سرداً حيادياً للحكاية

مارادونا في عين كوستوريكا... ليس سرداً حيادياً للحكاية

27 نوفمبر 2020
دييغو مارادونا وأمير كوستوريكا (آن كريستين بوجولا/فرانس برس)
+ الخط -

لم تمضِ دقائق بُعيد إعلان خبر وفاة لاعب كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا، يوم الأربعاء، حتى اتضح حجم الخسارة التي مني بها عشاق اللعبة بشكلٍ عام. فرغم تسارع الأخبار في الفترة الأخيرة، سواء تلك المتعلقة بالرئاسة الأميركية أو تقدم البحث عن علاجٍ لفيروس كورونا وغيرها، صار تصفح وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى نفس المكان؛ رثاء أسطورة اللعبة.

وكما درجت العادة عند رحيل شخصيةٍ بهذا الحجم، يبدأ "من بقوا" برسم الصورة الأخيرة للراحل، مختارين زوايا أو تصريحات أو لحظات بعينها دون الأخرى. وفي حالة دييغو مارادونا، فإن الستين عاماً التي قضاها "المريخي" على هذا الكوكب تركت لنا كماً هائلاً من القطع الصغيرة المتفرقة، داخل وخارج الملعب التي تصلح للذكر عند الرثاء.

وبين كل المحاولات لفهم هذه المرحلة، يبرز فيلم أمير كوستوريكا Maradona by Kusturica للمشاهد الذي يرغب بما هو أطول من مجرد اقتباسٍ للاعب الراحل. بدايةً، ليست محاولة كوستوريكا الوحيدة، إذ ثمة أعمال أخرى حاولت تغطية حكاية مارادونا من زوايا أخرى كـ Loving Maradona وMaradonapoli، فضلاً عن سلسلتي Maradona in Mexico لـ"نتفليكس" وDiego Maradona لـ"إتش بي أو".

ما الذي يميز عمل كوستوريكا إذن؟ قد يقول البعض إن التشابه بين الرجلين هو عامل التميّز (سواء كان ذلك واضحاً بحد ذاته، أم عبر جهود كوستوريكا ليبدو كذلك)، أو قوة حضور الجانب السياسي في الفيلم أو تلك المساحات التي تخلو من "تصريحٍ ناري" ونبدأ خلالها بالتعرف أكثر على مارادونا. وفي الحقيقة فإن كل ما سبق هو ما يميز العمل، لكل الأسباب الجيدة أو المتواضعة منها على حدٍ سواء.

ثمة قضية تدعم السبب الأول، إذ يوحي عنوان الفيلم منذ البداية أنه ليس محاولةً "حيادية" لسرد حكاية الأرجنتيني، بل واحدة ذاتيّة، يتداخل فيها مارادونا المشهور مع مارادونا الذي يتصوّره كوستوريكا وآخر نتعرّف عليه عبر المقابلات مع اللاعب الراحل، ومزيج من المواد الأرشيفية والمقاطع الطويلة التي يظهر فيها كوستوريكا أمام الكاميرا معلناً وجوده. يسمح وجود كوستوريكا الصريح لنا بفهم تصوّره عن الأسطورة الأرجنتينية. إذ يرى فيه أملاً لتغيير العالم كما يقول، ومجسداً لآمال بلدان لا ساحات نصر ٍلها سوى ملاعب كرة القدم، بعد أن أنهكتها الحروب وعلاقات الاستغلال وقروض صندوق النقد الدولي.

يبدو كوستوريكا محقاً إلى حدٍ ما، إذ إنّ المقارنة بين صورة لاعب كرة القدم اليوم وذاك الذي كان يعبر ملاعب الأمس توضح لنا سطوة "العلاقات العامة" وإدارة الحضور التي قلما تنتج نماذج مشاغبة كمارادونا أو سقراط أو إيريك كانتونا، وتحصر اللاعبين اليوم بما لا يتعدى المبادرات البسيطة وحملات الأمم المتحدة لمحاربة الفقر أو الإيبولا أو سواها. ويثبت لنا تصريح هيكتور بييرين، لاعب "نادي أرسنال"، ذلك، حين استنكر صمت أقرانه حيال قوانين الإجهاض التي أقرّتها ولاية ألاباما الأميركية، وخوف اللاعبين اليوم من "المخاطرة".

لذا، فإن محاور رئيسية تطغى على الفيلم، مثل موقف مارادونا من سياسات الولايات المتحدة الأميركية وجورج بوش ونظرته للعدالة، والأهم البعد السياسي لهدف "اليد الإلهية"، ضمن سياق حرب الفوكلاند وما عناه ذاك النصر على الإنكليز بالنسبة للأرجنتينيين حينها وحتى اليوم. يضاف إلى ما سبق جسد من المواد الأرشيفية التي ترصد مشاركة مارادونا في قطار الاحتجاج عام 2005 ولقاءه بفيديل كاسترو، وهوسه بتشي غيفارا، فضلاً عن تطوير نظريته عن العدالة.

لم تكن حشود المحتجين هي الوحيدة التي عرفها مارادونا، ولا يغفل الفيلم ذلك. إذ ثمة تقطيع يرتكز إليه بناء الفيلم ويعتمد على مقاطع لـ "كنيسة مارادونا" وطقوس الانتساب إليها، ومقاطع كثيرة تظهر تجمهر المعجبين حوله في الأرجنتين وإيطاليا وغيرها. ولمن لم يعرف مارادونا جيداً، فإن حضوره كـ "قديس" أشد ما يتضح في هذه المقاطع التي تصوّر ما هو أبعد بكثير من مجرد الإعجاب أو التقدير، وتضفي تلك الهالة التي قلّما نراها اليوم.

وقد يكون أهم ما يمدنا به الفيلم هو عنصر "الإطالة"، ولنعد إلى نقطة الاقتباسات القصيرة قليلاً لنفهم أهمية هذا العنصر. إن كثيراً من رثاء اليوم يعتمد على اقتباسات قصيرة أحادية البعد عن إنسانٍ مركب عاش حياة زاخرة، سواء كانت هذه الاقتباسات متعلقة بالرياضة نفسها أم احتجاجية كتلك التي تتعلق بسقف الفاتيكان المطلي بالذهب. إن متابعة الفيلم، والأجزاء التي يُترَك فيها لمارادونا مساحة للحديث تحديداً، تساعدنا على بناء صورة أعمق عن الرجل، عن طفولته وآلام المعدة التي تصيب أمه "مصادفةً" كلّما كان الطعام قليلاً على مائدة الأسرة، وعن حربه مع الإدمان بعيداً عن أي بطولة ودور زوجته في إبقائه متماسكاً. إن هذا النوع من القصص التي لا يمكن لجملة قصيرة أن تعبر عنها، ضروري لا لبناء صورة متكاملة عن دييغو مارادونا وحسب، بل لفهم رؤية العالم التي كوّنها لاحقاً وفهم مسيرته كلها.

كرة عالمية
التحديثات الحية

مع ذلك، سيسأل المشاهد نفسه، اليوم تحديداً، عن ذاتية كوستوريكا في بعض المواضع، وعن الطريقة التي رغب فيها أن يتصوّر مارادونا. فبعد كل قطعة من المقابلات أو سواها، يختار كوستوريكا هدفاً مميزاً لمارادونا ثم يتبعه بمقطع كرتوني يظهر مارادونا في مواجهة كروية فردية مع شخصيات سياسية مثل مارغريت تاتشر وتوني بلير وجورج بوش. قد تلفت هذه المشاهد النظر بادئ الأمر، ثم تتحول إلى تكرارٍ بصريٍ أولاً ودالة على مبالغةٍ ثانياً. 

إذ رغم كل شيء، لا يقول أحد إن قوى الشر هزمت على يد مارادونا نفسه تحديداً. بل يوضح الأرجنتيني بلسانه أن المعركة لم تنتهِ بعد. ويتركنا ذلك، بعد رحيل الفتى الذهبي، أمام هذا التصور المبسط والمفرط في بطوليته لقاتلٍ سياسيٍ متسلسل كما يحب المخرج أن يراه، رغم معرفتنا أن حضور الجانب السياسي لمارادونا في حياته لم يتم بهذه الطريقة شديدة التسلسل التي تبدو أقرب إلى عملٍ بدوام كامل حقيقةً.

المساهمون