ماجي مرجان و"مير": توازن سينمائي ممتع

ماجي مرجان و"مير": توازن سينمائي ممتع

25 يوليو 2022
ماجي مرجان: شفافية التقاط لحظة وملمح وبيئة وأناسٍ (مارك ديفيس/Getty)
+ الخط -

بسلاسةٍ يُرافقها تدقيقٌ وتكثيف بصريّين، تروي ماجي مرجان، في "من وإلى مير" (2021، 62 دقيقة، "نتفليكس") مقتطفات من سيرة عائلة وأهل، وبيئة واجتماع، وأناسٍ وعلاقات. تستند إلى لقاءاتٍ عدّة مع أفرادٍ، لبعضهم صلة قرابةٍ بها. تختار من يُتيح لها دخولاً هادئاً وعميقاً إلى نفوسٍ وتأمّلات وهواجس وطموحات، وهذه الأخيرة منكمشةٌ أحياناً في واقعيّةٍ، مُفرطة غالباً، من دون أنْ يُسيء الإفراط إلى حيويتها، وإلى جوهرٍ تحتويه، يتمثّل بقناعةٍ أو باستسلامٍ، أو بتنبّه باكرٍ إلى "حقائق" عيشٍ وحياة.

جولات كثيرة تقوم بها ماجي مرجان، بدءاً من عام 2008، مع أول تصويرٍ لها في بلدتها الريفية "مير" (محافظة أسيوط، 400 كلم جنوب القاهرة)، التي "فيها أعلى كثافة سكّانية من الأقباط على مستوى الجمهورية"، بحسب "ويكيبيديا" العربية. هذا تقوله مرجان أيضاً، تعريفاً بالبلدة: "كثيرون من سكّانها أقباط". لكنّ هذا لن يحول دون كشفٍ سينمائي عن أحوالٍ، تعيشها بلدات وبلدان أخرى، أبرزها الهجرة من الريف إلى المدينة، أو من البلدة/البلد إلى الخارج، طلباً لعملٍ أو لدراسة. هذا تفصيلٌ مرويٌّ على ألسنةِ من له مُهاجرٌ أو أكثر، ومن يرغب في هجرة، والمهاجر نفسه، وبعض الأخيرين مُقيم، منذ سنين، في القاهرة.

تفاصيل أخرى تبحث في تاريخ البلدة وحكايات ناسها، والإرث، المادي والمعنوي، المتناقل من جيلٍ إلى جيل، والتقاليد المعمول بها، والزيجات/الأفراح، وحالات الانتحار وأسبابه، وهذا يُقال بوضوح ومن دون مواربة، ويتناول شباباً ونساءً ينتحرون طلباً لخلاصٍ من ضغطٍ، أو تمزّق، أو انكسار، أو خيبة. ورغم أنّ الانتحار مرفوضٌ في الكنيسة (كما في الإسلام)، يتعامل قساوسة "مير" بشكلٍ أبسط وأسهل من ثقل الرفض، وبعضهم يروي أسباب الانتحار كأنّه غير قَسٍّ.

والانتحار، إذ يهزّ البلدة ولو قليلاً، يُصبح عادياً، أو كأنّه عاديّ في بلدة تعتني بطقوسٍ اجتماعية ودينية وثقافية، والأخيرة تلتزم الاجتماعي والديني، أو تنبثق منهما. بعض سخرية مبطّنة إزاء انتحار أحدهم، يُكمِل مفاصل تلك الحالة المزمنة، التي يصعب حلّ أسبابها، فالضغط على المرأة مثلاً، بسبب عدم إنجابها، عاملٌ متأتٍ من الثقافي العام، الموروث، أيضاً، من أجيال وتاريخ.

المراهقون، إذ يتمتّعون بعيشٍ يمنحهم شعوراً بشيءٍ من حرية وتفلّت، ينظر بعضهم إلى العلم والدراسة نظرة مُحبِّة، ويتوق آخرون إليهما، كحال أفرادٍ عديدين.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

ماجي مرجان، في هذا كلّه، تستمع وتلتقط وتُصوّر (مديرا التصوير: زكي عارف وشكري فكري، تصوير: أمجد رياض وبولا طلعت وهاني يس وماجي مرجان)، قبل إدخالها المُصوَّر إلى غرفة التوليف (مونتاج وتصحيح ألوان: باسم لبيب) لانتقاء ما يُصبح فيلماً وثائقياً، يُثير متعةً في المُشاهدة، وقلقاً على أفرادٍ، وحبّاً لهم، وانغماساً في أحوالهم وانفعالاتهم ومشاغلهم ورغباتهم. هذا متأتٍ من أعوامٍ طويلة، تبدأ من أول تصوير، وتنتهي بعد 13 عاماً من المثابرة والتنقيب والتساؤل والاستماع، ومن خلق علاقة مع المُصوَّرين/المُصوَّرات، الذين يبدون جميعهم، أمام الكاميرا، كمن له معها حكاية حبّ وشفافية وثقة وراحة، رغم قسوة واقع، وبهاء لحظات، وقوّة التحوّل الذي لن يكون (التحوّل) كلّه جميلاً ومرغوباً فيه.

للتصوير حساسية، انفعالية وإنسانية تترافقان مع السينمائيّة، في تشكيل متتاليات بصرية تُزاوِج بين أناسٍ وأزقّة ومنازل وقصور، وطبيعة تمتدّ على بساطٍ ملوّن يتكامل مع ملامح فقرٍ وآثار غنى، ما يحثّ المخرجة على إيجاد معادلةٍ تكشف ثراءً لدى الجيمع، في النفس والحلم والعيش، وإن يبدو في الأفق والملامح شيءٌ من عدم اكتفاء أو عدم رضى أو عدم انبساطٍ. والحزن، إذ يُشكِّل جزءاً من حياةٍ، يأتي بين حين وآخر، وآخر "زياراته" حاصلةٌ قبل وقتٍ على إنهاء التصوير، إذ يُتوفّى روماني عبد التواب عام 2016، "بسبب التسمّم"، هو الذي يتصدّر، كمراهقٍ، أكثر من مشهدٍ بطيبة قلبه، وخفّة دمه، وجمال ضحكته، وبساطة عيشه، وتنبّهه إلى مسائل يُفترض به أن يتنبّه إليها لاحقاً.

هذا يظهر ببساطة وعمق في آن واحد، إذ تُتقن ماجي مرجان كيفية إزالة كلّ عائق بين الناس وتصويرهم، فتجعل التصوير أشبه بزيارات عائلية تُخفِّف، كثيراً، من رهبة الكلام أمام الكاميرا، التي تُصبح ضيفاً لا آلة، خاصة في مسائل حسّاسة، تكشف مكامن خلل وارتباك في الاجتماع والعلاقات.

رغم اعترافها، في بدايات توثيقها السينمائيّ لـ"مير" وناسها، أنّها غير مُدركةٍ إجابةً على سؤال أم يوسف لها، قبل 12 عاماً، عن سبب التصوير، فالبلدة "بلد زيّ كل بلاد مصر"؛ تنهمك ماجي مرجان، في الفترة هذه كلّها، في اشتغالها على الذاكرة من خلال الراهن، وعلى بحثٍ بصريّ في مسار البلدة ويوميات ناسها، قبل أن تعثر لاحقاً على إجابةٍ، تنعكس في قولٍ لها، مفاده أنّ السبب كامنٌ في معرفتها الناس الذين يعيشون في "مير"، وفي رغبتها في أن يعرف الجميع أهل بلدتها.

هذا يؤكّد شفافية التقاط أزمنةٍ وأمكنةٍ وذكرياتٍ وتفاصيل ومعالم ووجوه وحالات وتأمّلات، واضعةً نفسها، كمخرجة وكامرأة وكابنة البلدة، في نسيج الحكاية وفضائها البصري، كمن يتمرّن على تسويةٍ فنية وجمالية، تقضي بتحويل الذاتي/الخاص إلى فضاء مفتوح على سِيَر وذاكرةٍ، بتوازنٍ سينمائي ممتع.

المساهمون