مؤسسة ديكومنتا: ما زالت معاداة السامية ورقة رابحة

13 فبراير 2025
من تظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين في برلين، 4 يناير 2025 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مدونة السلوك الجديدة لمؤسسة ديكومنتا الألمانية تعتمد تعريف IHRA لمعاداة السامية، مما يفرض قيوداً على حرية التعبير ويستهدف الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية.
- المدونة تُعتبر أداة لتكميم الأفواه في الساحة الثقافية الألمانية، حيث تمنع الفنانين من نقد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، مما يعكس ازدواجية المعايير في قضايا حقوق الإنسان.
- تثير المدونة تحديات للمثقفين والفنانين الألمان، حيث يمكن أن يُعتبر أي تضامن مع الفلسطينيين مخالفة، مما يهدد حرية التعبير ويطرح تساؤلات حول مستقبل الساحة الفنية.

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الفنية والثقافية في ألمانيا وحول العالم، أعلنت مؤسسة ديكومنتا الألمانية عن تبني مدونة سلوك جديدة، تعتمد التعريف العملي لمعاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA). وعلى الرغم من أن الوثيقة تزعم الدفاع عن قيم الحرية والكرامة الإنسانية، فإنها تحمل بين سطورها قيداً خطيراً على حرية التعبير والإبداع، وتفتح الباب أمام استهداف الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية.

مؤسسة ديكومنتا تعتمد مدوّنة جديدة

تؤكد "ديكومنتا" في مدونتها الجديدة أهمية احترام حرية الإبداع، لكنها في الوقت نفسه تمنح لنفسها الحق في التدخل لحجب أي عمل فني ترى أنه يتعارض مع مبادئها. المشكلة هنا لا تكمن فقط في النصوص، بل في كيفية تفسيرها وتطبيقها. فالتعريف المُعتَمد لمعاداة السامية يخلط عمداً بين الانتقاد المشروع للسياسات الإسرائيلية وبين الكراهية الدينية أو العرقية ضد اليهود. على سبيل المثال، يعتبر هذا التعريف أن وصف إسرائيل بأنها "مشروع عنصري" هو شكل من أشكال معاداة السامية. هذا يعني عملياً أن أي فنان أو كاتب ينتقد الاحتلال الإسرائيلي، أو يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، يمكن أن يتعرض للرقابة أو حتى للعقوبات.
تبدأ مدونة السلوك الجديدة بعبارات رنانة عن "احترام الكرامة الإنسانية"، و"ضمان حرية التعبير الفني". لكن، في فقرة أخرى، تمنح المؤسسة لنفسها الحق في التدخل، بل وتبرّر إمكانية فرض سياقات تفسيرية على الأعمال الفنية التي تراها "تتناقض" مع هذه المبادئ. وهنا تكمن المفارقة، إذ كيف يمكن لمؤسسة فنية أن تزعم الدفاع عن حرية التعبير، بينما تضع حدوداً غير واضحة لما يمكن قوله أو عرضه؟ هذا يعني أن أي فنان أو أكاديمي أو كاتب ينتقد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو كان نقده قائماً على أسس حقوقية وإنسانية، قد يجد نفسه في مواجهة اتهامات خطيرة قد تدمر مسيرته المهنية.

ازدواجية المعايير

في سياق تصاعد الحملات ضد الحركات الداعمة للفلسطينيين، مثل حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، تأتي مدونة السلوك الجديدة أداة إضافية تهدف إلى تكميم الأفواه داخل الساحة الثقافية الألمانية. ولا شك أن منع الفنانين من التعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين، أو نقدهم سياسات الاحتلال الإسرائيلي يعد انتهاكاً جديداً وصارخاً لحرية الفكر والإبداع. لا يتعلق الأمر فقط بالفنانين الفلسطينيين، بل بجميع الفنانين والناشطين الذين يرفضون ازدواجية المعايير الغربية في قضايا حقوق الإنسان. من الواضح أن ألمانيا، بسبب تاريخها المعقد مع اليهودية، وارتكاب مذبحة الهولوكوست، تسعى دائماً إلى إثبات التزامها بمكافحة معاداة السامية، ولكن تحويل هذا الالتزام إلى ذريعة عصابية لقمع الأصوات النقدية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، هو خيانة لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد أصبح الخلط بين مكافحة معاداة السامية وحماية سياسات إسرائيل الإجرامية من الأمور اللافتة في السياسة الألمانية بعد عملية طوفان الأقصىى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية غلى غزة.
لا شك أن حرية الإبداع ليست ترفاً، فالفن هو المرآة التي تعكس واقعنا، والحد من حرية الفنانين يعني حصار هذه الميزة المهمة في الممارسة الفنية حتى لا تعكس سوى ما يُرضي السلطة. فكيف يمكن لمعرض عالمي مثل "ديكومنتا" أن يزعم التزامه بالتعددية والانفتاح، وهو يفرض قيوداً أيديولوجية على المشاركين فيه؟ لذا، فإن مدونة السلوك الجديدة لا تشكل فقط تهديداً لحرية الفن، بل هي مؤشر خطير على تحول الساحة الثقافية الألمانية إلى ساحة خالية من الأصوات النقدية والمناهضة للظلم. وإذا لم يتصد المثقفون الألمان لهذا التوجه، فقد يجدون أنفسهم أمام مشهد فني عقيم وبلا روح، لا يختلف بأي حال من الأحوال عن المشهد الفني في عهد أي نظام قمعي.

سردية واحدة

في السنوات الأخيرة، شهدت ألمانيا تصاعداً غير مسبوق في حملات استهداف الحركات الداعمة للفلسطينيين. ومع صدور هذه المدونة، يصبح التضييق أكثر وضوحاً وأكثر خطورة. تخيل أن فناناً يُشارك في معرض دولي كـ"ديكومنتا"، ويقرّر أن يعبر عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني عبر لوحة أو عرض فني. في ظل القواعد الجديدة، يمكن أن يُعتبر هذا العمل مُخالفة تستدعي تدخل إدارة المعرض، وربما تؤدي إلى سحب العمل الفني أو حتى منع الفنان من المشاركة مستقبلاً. حتى التعبير الشخصي البسيط، مثل إعجاب بمنشور على وسائل التواصل الاجتماعي يدعم القضية الفلسطينية قد يُفسَّر على أنه مخالفة لقوانين المؤسسة. وهذا ليس افتراضاً، بل حدث بالفعل مع أعضاء من الفريق الفني لـ"ديكومنتا 15"، إذ تعرضوا لانتقادات لمجرد تفاعلهم مع منشورات تضامنية.

يبقى السؤال الأهم: هل سيسمح المثقفون والفنانون الألمان بتحويل الساحة الفنية في ألمانيا إلى منصة لفرض سردية واحدة فقط؟ أم سيقفون دفاعاً عن حق الفنانين في التعبير بحرية عن قضاياهم العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟ فالفن لا يعرف الخوف، والفنان لا يخضع إلا إلى صوته الداخلي ولعدالة قضيته، وما يؤمن به.

المساهمون