لور دكاش... حراسة نسائية للموسيقى

15 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 14:57 (توقيت القدس)
احترفت لور دكاش التلحين وقدّمت أكثر من 120 لحناً (ساوندكلاود)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- لور دكاش كانت شخصية محورية في الموسيقى العربية، حيث جمعت بين الأصول اللبنانية والتراث الموسيقي المصري، وابتكرت لونًا غنائيًا جديدًا جعلها نجمة في حفلات الإذاعة المصرية.
- أغنية "آمنت بالله" كانت لحظة مفصلية في مسيرتها، حيث جمعت بين بساطة اللحن وعمق الفكرة الدينية، لكنها حجبت الكثير من أعمالها الأخرى.
- تميزت دكاش بكونها من القلائل اللواتي احترفن التلحين، وربطت ألحانها بجذورها الروحية، مما أكسبها حسًا تأمليًا ولغويًا نادرًا.

مثّلت المطربة والملحنة لور دكاش (1917 ــ 2005) نقطة تقاطع محورية بين الأصول اللبنانية الكنسية العريقة والتراث الموسيقي المصري الكلاسيكي. عندما غادرت بيروت لتستقر في القاهرة، حملت معها العود الذي رافق رحلتها في تلحين مئات الأغاني التي أثرت أرشيف الإذاعة المصرية، وقد لقّبها بعض الصحافيين بـ"أم كلثوم لبنان"، إلا أن بصمتها الفنية تجاوزت التقليد لتؤسس نمطاً فريداً يجمع بين الدقة في أداء الموشحات والقدرة على ابتكار لون غنائي جديد، كما تجلّى في أغنيتها الشهيرة "آمنت بالله".

ولدت لور دكاش في أسرة محبة للفنون؛ كان والدها جورج دكاش يهوى كتابة الشعر العامي، فيما كانت والدتها تغني وتعزف على العود. لكن التكوين الحقيقي لشخصيتها الموسيقية بدأ مبكراً جداً، إذ تعلمت العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية في سن السابعة على يد أساتذة كبار مثل بترو طراد وسليم الحلو، وتشربت في الوقت نفسه فن الترتيل والغناء الديني متأثرة بالتراتيل الكنسية. هذا الدمج بين الأصول الدينية العميقة والدراسة الأكاديمية للموسيقى منح صوتها أصالة وقوة وتميزاً في الأداء. ورغم أنها حققت شيئاً من النجاح في لبنان، فإنها انتقلت إلى القاهرة حوالي عام 1945، إذ أدركت أهمية التراث المصري وعمّقت دراساتها لفن الأدوار والموشحات على يد فنانين كبار مثل مرسي الحريري ومحمود صبح، ما وضعها ضمن القلائل القادرين على أداء التراث بأمانة ودقة، وجعلها نجمة دائمة في حفلات الإذاعة وسهراتها الفنية.

واليوم، في الذكرى العشرين لرحيل لور دكاش، تتجدّد مناسبة التأمل في منجزها الغنائي والتلحيني الكبير. من أبرز سمات تفردها ريادتها في التلحين والعزف، في زمنٍ لم يكن هذا الدور شائعاً بين المطربات العربيات. كانت تعتز بـ"عودها الأول" الذي لحّنت عليه قصائدها الأولى، مثل "طلوع الفجر" و"بعد عزّ عيني". منحتها معرفتها العميقة بالمقامات والعلوم الموسيقية ثقة فنية راسخة، تجلت في أدائها الحي وفي قدرتها على صياغة ألحان تعبّر عن شخصيتها الفنية بوضوح.

ورغم رصيدها الواسع في القوالب الكلاسيكية والتراثية، فقد جاءت شهرتها الأوسع في مصر عبر أغنية "آمنت بالله" عام 1939، من نظم الشاعر التونسي مصطفى خريف وتلحين فريد غصن. كانت الأغنية لوناً جديداً ومختلفاً في الغناء العربي، وسرعان ما انتشرت حتى بين فرق المزمار البلدي في الأحياء الشعبية التي قدّمتها بمقدمة موسيقية تُعرف بـ"التوبة"، في دلالة على عمق تغلغلها في الوجدان الشعبي المصري. هكذا تحوّلت "آمنت بالله" إلى الأثر الأبرز في مسيرتها، وإلى أيقونة تجمع بين الأصالة والانتشار الجماهيري.

شكلت هذه الأغنية لحظة مفصلية في مسيرة دكاش، إذ وُلدت في سياق منافسة حين قررت شركة بيضافون إسناد عملها إلى أسمهان، فجاءت "آمنت بالله" كردّ فني على هذا التحدي. غير أن شهرتها الواسعة حجبت الكثير من الأعمال التي لحّنتها أو غنّتها لاحقاً، وهو ما  أعربت عن دهشتها حياله، إذ رأت أن أغنيات أخرى لها تستحق الاهتمام نفسه.

تجاوزت الأغنية الحواجز الفنية والطبقية، فجمعت بين بساطة اللحن وعمق الفكرة الدينية، ونجحت في الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع المصري، من الأوساط الراقية إلى الأحياء الشعبية. بذلك، شكّلت نقطة تحوّل في تلقي الفن واستهلاكه، وأظهرت قدرة لور دكاش على الجمع بين الرصانة الأكاديمية والتأثير الجماهيري دون تنازل فني.

ورغم موهبتها الفذّة ومكانتها في الإذاعة المصرية، فإن كثيرين يرون أنها لم تنل ما تستحقه من الشهرة التاريخية مقارنة ببعض معاصريها. ومع ذلك، تبقى قيمتها الحقيقية في كونها حارسة للتراث ومؤدية أمينة لألحان القدامى، مرجعاً يُحتذى في أمانة الرواية ودقة الأداء، وصوتاً وُلد في تقاطع العمق الديني والعلم الموسيقي، فحمل للفن العربي أحد أكثر وجوهه صدقاً ونقاءً.

يُعدّ احتراف لور دكاش للتلحين، وتأليفها لأكثر من 120 أغنية، العلامة الأبرز في مسيرتها الفنية، خصوصاً بالنظر إلى المشهد الموسيقي العربي في الأربعينيات والخمسينيات. ففي زمنٍ كانت فيه معظم المطربات يعتمدن على ملحنين رجال، مثّلت دكاش نموذجاً للفنانة التي كسرت حاجز الوصاية الإبداعية، مصرّةً على حضورها كملحّنةٍ صاحبة رؤية. كانت تعتزّ بـ"عودها الأول" الذي ألّفت عليه قصائدها الأولى، مستندةً إلى تكوين أكاديمي مبكر بدأته في السابعة من عمرها على أيدي أساتذة كبار.

ورغم وجود بعض التجارب النسائية في التلحين مثل ملك ونادرة، تفرّدت دكاش بربط ألحانها بجذورها الروحية العميقة. فقد استقت من التراث الكنسي اللبناني ما منحها حسّاً تأملياً صارماً، ثم مزجته بالدراسة الأكاديمية التي تابعتها في مصر، حيث تعمّقت في فنون الأدوار والموشحات. هذا المزيج بين الرصانة اللبنانية وروح التجديد المصرية منح ألحانها نكهة خاصة يصعب تصنيفها.

اعتمدت دكاش في تلحينها على الشعر الرصين والعميق، متحوّلةً إلى "ملحّنة شاعرة" بامتياز. كانت دواوين الشعر غذاءها اليومي، تلحّن قصائد لكبار الشعراء مثل إيليا أبو ماضي وبشارة الخوري في لبنان، وصالح جودت ومحمود حسن إسماعيل في مصر. هذا الارتباط الوثيق بالنصوص الشعرية أكسب ألحانها حسّاً لغوياً نادراً، وفسّر إشادة النقاد بسلامة أدائها ودقتها في النطق والإعراب، إذ كانت تتعامل مع الكلمة كما يتعامل الملحّن الواعي مع أداة موسيقية، تدرك قيمتها قبل أن تؤديها.

ويمكن النظر إلى تأثير التراتيل الكنسية بوصفه مفتاحاً لفهم صوت دكاش وأسلوبها في الأداء. فالتراتيل بطبيعتها تتطلب ضبطاً وجديةً وبعداً عن الزخرفة المبالغ فيها، وقد نقلت دكاش هذا الحس المقدّس إلى الغناء الدنيوي، فظهر صوتها مفعماً بـ"أصالة أخلاقية" في الفن، منحته ثقة النقاد في زمنٍ كانت فيه الفنانة تواجه أحكاماً اجتماعية صارمة.

تميّز صوتها بالرصانة والجدية، وابتعد عن الميوعة والدلع الغنائي السائد آنذاك. وأشاد النقاد باستقامتها اللغوية والموسيقية على السواء، إذ لم تتبع أسلوب الغناء العاطفي الدرامي الرائج بين مطربات جيلها، بل اختطّت لنفسها أسلوباً محافظاً في الظاهر، ثرياً في العمق، يجمع بين الصرامة الأكاديمية والتعبير الإنساني.

استطاعت دكاش تجاوز الحدود التقليدية المفروضة على المرأة في المجال الفني. لم تكتفِ بالتأثير في الموسيقى الكلاسيكية، بل سعت إلى التجديد ضمن إطارها ذاته، محافظةً على روح التراث من دون الوقوع في الجمود. غير أن كثيرين يرون أنها لم تنل ما تستحقه من تقدير، بسبب هيمنة الملحنين الرجال على الساحة في الأربعينيات والخمسينيات، وما فرضه ذلك من تهميش لدور النساء المبدعات.

ومع ذلك، فقد تمكّنت لور دكاش من كسر تلك الهيمنة بإصرارها على التلحين والغناء من منظورها الخاص. كانت تختار نصوصها بعناية، وتمنحها لحناً يحمل توقيعها وهويتها المزدوجة: رصانة التراتيل اللبنانية وابتكار الروح المصرية. وهكذا تميّزت موسيقاها بالقدرة على تجاوز الجمود الكلاسيكي، لتصل إلى جمهور واسع، وترسّخ مكانتها كإحدى أبرز الملحنات والمطربات في تاريخ الموسيقى العربية، ممن جمعن بين المعرفة الأكاديمية والموهبة الأصيلة والوعي الجمالي.

المساهمون