لاتا مانغيشكار... طفولة الأغنية في ذاكرة السينما الهندية

لاتا مانغيشكار... طفولة الأغنية في ذاكرة السينما الهندية

27 فبراير 2022
حافظت على صوتها ولم تفقد بريقها يوماً (بروديب غوها/ Getty)
+ الخط -

في 6 فبراير/شباط الحالي، انطفأ جسد المُطربة الهندية لاتا مانغيشكار (1929 ــ 2022)، وأُسدل معها ستار الأغنية الرومانسية المُلتزمة في الهند/ عن عمر تجاوز الـ90 عاماً. لكنّها ستظلّ المرأة الأكثر تجذّراً في طفولتها، إذْ يستحيل على المُستمع العربيّ التعرّف إلى صوتها وأغانيها من خلال صُوَرها. قد لا يُصدّق أنّ وراء الصورة يكمن صوتٌ طفوليّ حادّ ومُذهل استطاع لأكثر من 70 سنةٍ اختراق واقع الأغنية الهندية وإخراجها من فولكلورها الغنائي الوطني المُرتبط بالمجد والسياسة والمقاومة والوطنية.

ذلك أنّها حافظت في قلبها على ما تُحبّ أنْ تُغنّيه وليس ما تفرضه مؤسّسات الإنتاج الهندي أو حتّى السياق التاريخيّ السياسي الجريح الذي عاشت فيه مانغيشكار. لذلك تُعدّ أشهر مغنية أفلامٍ في الهند، إذْ صدح صوتها في أكثر من ألف فيلمٍ في بوليوود.

ورغم أنّ سبقها التاريخي جعلها تستفيد من الاشتغال مع أقوى وأكبر المُخرجين في الهند، تظلّ مانغيشكار تمتلك موهبة نادرة وصوتاً مُتفرّداً جعل الساحة الفنّية تنتبه لها مُبكّراً وتنسج معها صداقاتٍ دائمةٍ، كما هو الحال مع المخرج ياش شوبرا الذي عملت معه لسنواتٍ طويلة وفي أكثر من فيلمٍ، وحصدا معاً أعلى الجوائز السينمائية الهندية، ما جعلهما الثنائي الغنائي/ السينمائي الأكثر شهرة في الهند. استطاعا معاً خلق مسيرة فنّية دامت أكثر من نصف قرن، وغدت التجارب اللاحقة تُقلّدها على مُستوى الاشتغال مع الفريق نفسه من التقنيين والمُمثلين والمُغنّيين.

لم تُجدّد مانغيشكار الأغنية الهندية ولم يكُن ذلك طموحها أصلاً، بل ظلّت مُلتصقة بأغاني الأفلام، عاملة على محاكاة سياقاتها الفنّية وآفاقها الجماليّة، وكأنّها تعيش التجربة السينمائية من الداخل بوجدانها وجسدها. إنّها تُرمّم بصوتها جسد الآخر وآلامه وشوقه، وتجعله في خدمة الصورة على مُستوى عملية التلقّي، لأنّ أغانيها بسيطة وإنسانية وأكثر تعلّقاً بقلق الكائن وجُرحه الوجوديّ. يُخيّل للمرء وكأنّ أغانيها أشبه ببلسمٍ يُضمّد جرح القلب.

لا غرابة أنْ يرتبط مشوارها الفنّي بالحبّ والعشق وأساساً بمشروع ياش شوبرا بجعل الحبّ يخرج من كونه ترفاً جماليّاً أو ذائقة شعورية قد تستبد بجسد المرء في لحظةٍ ما وتغيب عنه مرّة أخرى، وإنّما يغدو معهما قضية وجودية تعلو على أيّ شيء آخر. ففي الوقت الذي يتجاوز فيه الحبّ في أفلام شوبرا العادات والتقاليد والعائلة والتاريخ، يتحدّى صوتها الصورة السينمائية ويخطّ لنفسه مساراً آخر مُجرّداً يُحلّق في سماء الحلم والمُطلق.

ثمّة سحرٌ خفيّ يشعر به المرء كلّما استمع إلى صوت مانغيشكار المُعذّب في رقّته وخاماته. إذْ إنّ تلك المَشاعر الدفينة في أدغال الجسد الإنساني كلّها تستيقظ وتزرع في العين دمعاً عن ذلك الصفاء الموجود في جسد كل البشر. إنّ صوتها بريء بفطرته وتلقائيته، إذْ يُمارس سُلطة ساحرة على جسد المُستمع ويجعله ينصاع لجماليّاته وسحره. ورغم تقدّمها في السن حافظت على صوتها ولم تفقد بريقها يوماً داخل الساحة السينمائية. والحقيقة أنّه لولا المهرجانات السينمائية والمسرحية داخل الهند التي شاركت فيها، لم يكُن من الممكن أنْ يتعرّف الجمهور الهندي إلى صاحبة هذا الصوت الطفولي الساحر بالنسبة لمُغنّية تُحبّ كواليس الأفلام وتعشق الظلمة التي من رحمها تستمدّ قوّتها وحكايتها.

المساهمون