كيف واجه مزارعو الهلال الخصيب تغيّر المناخ قبل 4 آلاف عام؟
استمع إلى الملخص
- كشفت التحليلات عن دلائل على الري المكثف لكروم العنب منذ العصر البرونزي الأوسط، مما يعكس استثمار المجتمعات في إنتاج العنب والخمر رغم المخاطر المناخية.
- توضح الدراسة أن الري كان أداة لإدارة المخاطر، حيث اختارت المجتمعات توجيه المياه للكروم في الجفاف، مما يعكس أولوية العائد الاقتصادي والثقافي للعنب والخمر.
حلل الفريق أكثر من 1500 عينة متفحمة من بذور وخشب العنب والزيتون تعود إلى الفترة بين العصر البرونزي المبكر والعصر الحديدي (نحو خمسة آلاف إلى 2600 سنة مضت). وجُمعت العينات من مناطق بلاد الشام وشمال بلاد الرافدين، أي ما يعادل اليوم لبنان والأردن وفلسطين المحتلة وسورية وتركيا وشمال العراق. لاستكشاف مدى توافر المياه للنباتات أثناء نموها، اعتمد الفريق نسب نظائر الكربون المستقرة، وهي أشكال غير مشعة لا تتحلل مع الزمن، داخل بقايا البذور والخشب. تمثّل هذه النسب مؤشراً حساساً للإجهاد المائي الذي تتعرض له النباتات؛ فكلما اشتد الجفاف، تغيرت البصمة النظيرية في أنسجة النبات.
يوضح المؤلف الرئيسي للدراسة دان لورانس (Dan Lawrence)، الأستاذ في قسم الآثار في جامعة دورهام البريطانية، أن النتائج تكشف أنه في العصر البرونزي المبكر كانت إشارات الإجهاد المائي تتوافق عموماً مع التقلبات الموسمية المتوقعة للرطوبة، لكن في العصور اللاحقة ازدادت تذبذبات الجفاف، وظهرت آثار للعنب والزيتون في مناطق أكثر جفافاً، ما يدل على اتساع استخدام الري خارج نطاق الواحات التقليدية ومناطق الينابيع.
تكشف التحليلات أيضاً عن دلائل الري المكثف لكروم العنب منذ العصر البرونزي الأوسط، وعن وجود كروم مزروعة في بيئات غير ملائمة بطبيعتها للعنب، ما يرجّح أن المجتمعات كانت تدفع موارد إضافية لتأمين إنتاج العنب والخمر دائماً رغم المخاطر المناخية.
تتوافق هذه النتائج مع قرائن أثرية سابقة تشير إلى المكانة الخاصة للخمر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية في منطقة الهلال الخصيب، إذ لم يكن الخمر مجرد مشروب، بل سلعة عالية القيمة قابلة للتخزين والنقل والتبادل عبر مسافات طويلة. "كان الزيتون والعنب محصولين محوريين، يوفران غذاءً للسكان وسلعاً قابلة للتصدير دعمت التجارة بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، وإلى مصر وتركيا والبحر المتوسط الأوسع"، يقول لورانس في تصريحات لـ"العربي الجديد".
ويضيف: "يُظهر بحثنا أن مزارعي الشرق الأوسط قبل آلاف السنين كانوا يتخذون قرارات زراعية محسوبة: أي المحاصيل تُزرع، وكيف تُدار، وكيف يوازنون بين خطر فشل الحصاد والجهد المطلوب للري، وبين الطلب المتوقع على منتجاتهم. إنه تذكير بأن الناس في الماضي لم يكونوا أقل ذكاءً، وأن قضايا تبدو حديثة -مثل التكيّف مع تغير المناخ وتوزيع الموارد بعناية- لها جذور عميقة في التاريخ".
تُظهر الدراسة أن اللجوء إلى الري لم يكن ترفاً، بل أداة إدارة مخاطر. فبينما يستطيع الزيتون تحمّل فترات جفاف أطول نسبياً، يتطلب العنب إمداداً مائياً أكثر انتظاماً لجودة المحصول. ومع ذلك، اختارت المجتمعات القديمة توجيه المياه إلى الكروم عندما اشتدت ظروف الجفاف، ما يعكس أولوية العائد الاقتصادي والثقافي للعنب والخمر، سواء لتلبية الطلب المحلي والطقسي أو لتوفير فوائض للتبادل التجاري.
يرى المؤلفون أن مرونة الأنظمة الزراعية في تلك العصور لم تأت فقط من تغيير مواقع الزراعة أو توقيت الغرس والحصاد، بل أيضاً من إعادة توزيع المياه لتأمين محاصيل استراتيجية بعائد مرتفع. هذا النمط –بحسب الباحثين– يوفر منظوراً تاريخياً مهماً لصناع السياسات اليوم في مناطق تتعرض لضغوط مائية متزايدة.
يشير لورانس إلى أن الدراسة اعتمدت على سجل حي توثقه بقايا متفحمة نجت من آلاف السنين. فالفحم النباتي يحفظ الإشارة الكيميائية للمناخ والري في زمن نمو النبات، ما يتيح إعادة بناء قصص الزراعة القديمة بدقة غير متاحة بالمصادر النصية وحدها. وهنا تكمن قوة علم النبات الأثري المدعوم بتحليلات النظائر المستقرة، ومن ثم تحويل جزيئات الكربون في بذرة متفحمة إلى شهادة على قرارات اتخذها مزارع عاش قبل أربعة آلاف عام.
"تظهر من هذا السجل حكاية واضحة: عندما كانت السماء تشح بالمطر، لم يتراجع المزارعون تلقائياً إلى محاصيل أقل استهلاكاً للمياه، بل وظّفوا ما تيسّر من تقنيات ومياه للحفاظ على محاصيل أعلى قيمة. ويعبر هذا السلوك عن اقتصاد حاذق للمخاطر وعن إدراك مبكر لدور الزراعة التجارية في شبكات التبادل الإقليمي"، يقول المؤلف الرئيسي للدراسة.