استمع إلى الملخص
- التزام كولدبلاي بالاستدامة البيئية في جولتها الأخيرة أثار نقاشات حول دور الحفلات الكبرى في مواجهة أزمة المناخ، مع تقليص الانبعاثات الكربونية باستخدام الطاقة المتجددة.
- حفلات كولدبلاي لم تكن مجرد حدث ترفيهي، بل مشروع متكامل يجمع بين الفن والاقتصاد والوعي البيئي، مما ساهم في انتعاش الاقتصاد المحلي وتغيير المشهد الموسيقي في لندن.
لم تكن عروض فرقة كولدبلاي (Coldplay) الأخيرة في ملعب ويمبلي اللندني مجرد حدث موسيقي صاخب يضاف إلى روزنامة الحفلات الصيفية في لندن، بل شكلت لحظة اختبار لنموذج جديد من العلاقة بين الموسيقى والجمهور، وبين التكنولوجيا والاستعراض، وبين الصناعة الثقافية والسياق الاجتماعي.
الحفلات التي بدأت يوم 22 أغسطس/آب وستمتد حتى الثامن من سبتمبر/أيلول ضمن جولة Music of the Spheres، جذبت مئات الآلاف من المتفرجين، وأعادت طرح أسئلة عن معنى الحفل الموسيقي في زمن تتجاوز فيه التجربة حدود المنصة والفرقة، من خلال اختلافات جوهرية عن العروض السابقة.
ففي هذه الحفلات، وظفت التكنولوجيا لتصبح محوراً سردياً يعيد صياغة التجربة، وتمنحها بعداً تجديدياً في المضمون، واكبه المنظمون بتجديد واضح في الشكل، فالأساور المضيئة التي وُزعت على الجمهور، والمبرمجة لتعمل بتناغم مع الإيقاعات والألوان، جعلت من الحضور جزءاً من المشهد البصري. بدلاً من أن يُغمر المتفرجون بالأضواء من المنصة، وجدوا أنفسهم محاطين بهالة من التفاعل الجماعي الذي يجعل الملعب بأكمله لوحة متحركة.
يحمل هذا التحول بعداً رمزياً مهماً؛ فالفنان لم يعد وحده المتحكم في الطاقة البصرية للعرض، بل أصبح الجمهور شريكاً في إنتاج الصورة. الإحساس الجماعي الناتج عن هذا الاندماج يجعل الأغنية تُستقبل كأنها تجربة حسية كلية، وليست مجرد صوتٍ يُسمع من بعيد. ولعل هذا هو ما يفسر الانطباعات التي نقلها كثير من الحاضرين عن كونهم "جزءاً من العرض".
باتت حفلات "كولدبلاي" شهيرة بقدرتها على تحويل مقاطع موسيقية بعينها إلى لحظات طقسية تتكرر في كل أمسية. فحين تتصاعد أنغام Fix You أو Yellow، يمتد الغناء الجماعي ليغطي الملعب بأكمله، ويتحوّل النص الغنائي إلى ما يشبه الإنشاد الجمعي. هذه الطقوس تمنح الجمهور شعوراً بالانتماء، كما تمنح الأغنية حياة جديدة تختلف عن نسختها المسجلة.
وتعمل التفاصيل الصغيرة، مثل ظهور لقطات عاطفية على الشاشات العملاقة أو مداخلات إنسانية عفوية، على تحويل الحفل إلى مساحة سرد جماعي. كل شخص يحمل قصة، وكل لحظة شخصية تجد صداها وسط آلاف المنصهرين في التجربة الوجدانية. وهنا تتضح قيمة الحفل بوصفه تجربة اجتماعية لا تقتصر على الموسيقى وحدها.
من الجوانب المثيرة للجدل في جولة "كولدبلاي" الأخيرة هو التزامها بخفض الانبعاثات الكربونية، واعتماد أساليب إنتاج مستدامة. البيانات المعلنة تحدثت عن تقليص الانبعاثات بنسبة قاربت 60% مقارنة بجولات سابقة، وذلك من خلال استخدام الطاقة المتجددة، وإعادة تصميم الأساور لتكون قابلة للتحلل، وتجربة أنظمة توليد للطاقة تعتمد على حركة الجمهور والدراجات الهوائية.
تحمل هذه الخطوات دلالات مهمة، فهي تشير إلى أن صناعة الحفلات الكبرى لم يعد بإمكانها تجاهل أثرها البيئي، لكن كثيرون يتساءلون عن مدى جدية هذه المبادرات، وهل هي مجرد تحسينات شكلية لإرضاء الرأي العام؟ أم إنها بداية لإعادة تعريف طريقة تنظيم الجولات الموسيقية. يمكن للتغطيات الصحافية أن تحقق في هذا الملف من زاوية المساءلة والتأكد من الأرقام، والجدل العالمي حول مسؤولية الترفيه الضخم في مواجهة أزمة المناخ.
يمثل ملعب ويمبلي عنصراً أساسياً في التجربة، فسعته الهائلة (نحو 90 ألف متفرج) تتيح تحويل العرض إلى حدث جماعي ضخم، فيما توفر بنيته التحتية إمكانيات تقنية ولوجستية تسمح بتنفيذ الإنتاج البصري والصوتي المعقد. أنظمة النقل العام المحيطة، وإدارة تدفق الجماهير، وخدمات الضيافة، كلها عوامل تجعل من كل ليلة عرضاً متكاملاً تنظيماً.
اقتصادياً، تتضاعف أهمية هذه الفعاليات بما تدره من عوائد مباشرة وغير مباشرة. المطاعم والفنادق والمتاجر القريبة من الاستاد تشهد انتعاشاً واضحاً، فيما يُضخ ملايين الجنيهات في اقتصاد لندن عبر مبيعات التذاكر والسلع المرافقة. هذه العلاقة بين الفن والاقتصاد الحضري تفتح الباب أيضاً أمام نقاشات مستمرة حول الدور الذي تلعبه الحفلات الكبرى في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي المحلي.
من اللافت في حفلات "كولدبلاي" أنها لم تعد تُقاس بعدد الأغاني أو بجودة الأداء الصوتي فقط، فالاعتبار الأول حالياً يتمثل في مقدار التفاعل والابتكار والتجديد. الحفل أصبح حدثاً تركيبياً يضم عناصر بصرية وصوتية وتفاعلية، ويعيد توزيع الأدوار بين الفنان والجمهور. بهذا المعنى، يمكن القول إن التجربة التي يعيشها الحاضرون أقرب إلى المسرح الجماعي منها إلى الحفل التقليدي.
هذا التحول يعكس اتجاهاً عالمياً في صناعة الموسيقى الحية، إذ يزداد اعتماد الفرق الكبرى على التكنولوجيا، ويُنظر إلى الجمهور بوصفه عنصراً نشطاً في صناعة الحدث. كما أن المقارنة مع حفلات فنانين عالميين آخرين، مثل بيونسه أو تايلور سويفت، توضح أن الساحة تتجه نحو معيار جديد: الحفل الناجح هو الذي يصنع تجربة شاملة، ليس مجرد أداء موسيقي منفرد.
من الزوايا اللافتة في هذه الجولة إعلان "كولدبلاي" عن تخصيص نسبة من دخل الحفلات لدعم المسارح الصغيرة عبر منظمة Music Venue Trust. هذه الخطوة تحمل أبعاداً رمزية وعملية، فهي إشارة إلى إدراك الفرق الكبرى أن بقاء المشهد المحلي المستقل شرط لاستمرار حيوية الصناعة.
عُرفت العاصمة البريطانية لعقود بأنها مركز للموسيقى الحية، وما زالت تؤكد مكانتها عبر استضافة حفلات ضخمة بهذا الحجم. لكن الجديد هو أن هذه العروض لم تعد مجرد جزء من صناعة الترفيه، بل أمست مشروعات متكاملة تجمع بين التكنولوجيا والاقتصاد والوعي البيئي. كل ليلة في ويمبلي تُثبت أن المشهد الموسيقي في لندن قادر على التجدد، وأن الحفل يمكن أن يكون مساحة لتجريب أشكال جديدة من التفاعل الثقافي.
تجاوزت حفلات "كولدبلاي" في ويمبلي هذا العام حدود المتعة السمعية والبصرية لتصبح ميداناً مفتوحاً للتجربة الفنية والاجتماعية. التكنولوجيا حولت الجمهور إلى شريك بصري، والطقوس الجماعية منحت الأغاني بعداً عاطفياً متجدداً، والاستدامة وضعت صناعة الحفلات تحت المساءلة البيئية، والبنية التحتية ربطت الفن بالاقتصاد الحضري. هذه العناصر مجتمعة تجعل من الحدث أكثر من مجرد جولة ناجحة، ليصبح لحظة تستحق التوثيق والتحليل لأنها تكشف عن ملامح التحوّل الذي يعيشه فن الأداء الحي عالمياً.
نقدياً، فإن هذه الجولة تفتح نقاشاً حول حدود الابتكار الفني في ظل هيمنة التكنولوجيا. إدخال العناصر البصرية والتفاعلية يثري التجربة، لكنه أيضاً يطرح سؤالاً عن موقع الموسيقى نفسها داخل هذا المشهد المركب: هل ما يزال اللحن والصوت يحتلان المركز، أم أن السرد البصري والتقنيات المبهرة باتت هي المحرك الأساسي؟
هذه الأسئلة لا تخص "كولدبلاي" وحدها، بل تخص مستقبل الحفلات الكبرى عالمياً. فالتوازن بين جوهر الموسيقى وبين الطابع الاستعراضي سيحدد شكل صناعة الأداء الحي في السنوات المقبلة، ويكشف ما إذا كانت هذه الحفلات ستظل قادرة على تقديم إضافة فنية، أم ستتحول تدريجياً إلى عروض بصرية ضخمة تضع الموسيقى في الخلفية.
كشفت هذه الحفلات عن دور الموسيقى في بناء مجتمع لحظي مؤقت، يتشارك فيه عشرات الآلاف تجربة وجدانية واحدة. فالحاضرون يأتون من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، لكنهم يجدون في فضاء ويمبلي صيغة للتواصل تتجاوز الانقسامات المعتادة.
كما أن الغناء الجماعي، والاندماج في موجات الضوء، يعيدان تشكيل هوية جماعية عابرة للزمن والمكان. مثل هذه اللحظات تحمل بعداً سوسيولوجياً مهماً، فهي تُظهر قدرة الموسيقى على صياغة هوية مشتركة، ولو مؤقتاً، وهو ما يمنح الحفل طاقة سياسية وثقافية أبعد من مجرد الترفيه.