استمع إلى الملخص
- يعالج الفيلم قضايا اجتماعية وعاطفية معقدة، مثل أزمة السكن والعلاقات العاطفية المحرمة، مما يضيف عمقًا دراميًا بعيدًا عن المبالغات المعتادة في السينما الهندية.
- يتميز الفيلم بجماليات بصرية قوية وتحكم سينمائي مميز، حيث تعكس المناظر الطبيعية الحالة النفسية للشخصيات، مما يجعله من أجمل الأعمال السينمائية الهندية الحديثة.
تُخزِّن المدن الكبرى أوجاعاً وأحزاناً ومآسيَ كثيرة، لا يُنتَبه إليها عادة، لأنّها تأتي من سكّان القاع، أو من غرباء قادمين من الضواحي والقرى، يرجون قربها وفرصها وأضواءها المشعّة. في معترك الحياة اليومية، ينسون أنفسهم كلّياً. وحين يراجعون مساراتهم بعد عقد أو عقدين، وربما أكثر، يكتشفون أنّهم لا يزالون يتخبّطون في القاع، ويحفرون بأظافرهم للحصول على لقمة عيش، ولا يملكون وقتاً للتفكير والمراجعة، ورصد محطات الماضي.
هذه المنطلقات وظّفتها المخرجة الهندية بايال كاباديا بمقدرة ووعي، في "كلّ ما نتخيّله كضوء" (2024)، الفائز بالجائزة الكبرى للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ" السينمائي، الذي تروي فيه مسار ثلاث نساء هنديات ذوات أعمار متفاوتة، يعملن ممرضات في مستشفى، وجئن إلى مومباي في أزمنة مختلفة، باحثات عن مستقبل لهنّ في إحدى أكبر مدن الهند تعداداً سكّانياً (23 مليون نسمة)، مُبتعدات بذلك عن أسرهن وقراهن والبيئة التي نشأن وعشن فيها، لإيجاد فرص أفضل. لكنْ، بعد عيشٍ وتتبع يومي، يكتشفن أنّ مومباي ليست كلّها أبراجاً عالية، كالتي أنشأها المقاولون لرجال المال والأعمال، وليست أيضاً أضواء ساطعة وفرصاً عدّة، بل مدينة شرهة، تلتهم أحلام كثيرين وكثيرات، وتدوس على كلّ من لا يملك الوسائل الضرورية للعيش، كحالهنّ وحال كثيرات ممن لم يرأف الحظّ بهن.
مهنة التمريض نموذج جيد لكاباديا، لأنّها تجمع بين الكَدح والمتوسّط، الفئة الأكثر حضوراً وعدداً تقريباً. لذا، فمشكلات الممرضات ستكون بالضرورة مشكلات فئات واسعة من المجتمع الهندي، عامة. أما الممرضات الثلاث، فمشكلاتهن تتقاطع في نقاطٍ وتختلف في أخرى: إنّهن يعانين أزمة سكن، والراتب الذي يتقاضينه لا يكفي. لذا، تُقيم برابا (كاني كوسروتي) مع زميلتها الأصغر سنّاً آنو (ديفيا برابا) في بيت واحد ضيّق، والأخيرة لم تقدر حتّى على دفع حصّتها من إيجار السكن. الممرضة الأكبر والأقدم منهما، بارفاتي (تشايا كادام)، طُردت من منزلها الذي تقطنه منذ أكثر من 20 سنة، لأنّها لا تملك وثيقة تثبت أنّها شغلته كلّ تلك المدة، رغم أنّ زوجها حصل عليه من الشركة المفلسة التي عمل فيها قبل وفاته.
المشكلات الفردية كثيرة ومتنوّعة. تُعذّبهن، وتزرع الشوك في طريقهنّ، ولا تعثرن على حلول مناسبة لها. فآنو الشابّة الهندوسية اليافعة مُغرمة بالشاب المسلم شياز (هريهدو هارون)، وهذا مُحرَّم وخطر، ولا تقبله عائلتاهما. برابا متزوّجة برجل سافر إلى ألمانيا، وتركها لوحدتها، من دون أنْ يُطلّقها. إنّها امرأة، لها احتياجات عاطفية، فوجدت نفسها ضعيفة أمام حبّ زميلها الطبيب مانوج (عزيز نيدومانجاد). لكنْ، رغم هذا الضعف، لم تستسلم له.
هذه معطيات وتشابكات عاطفية خدمت السيناريو (كاباديا)، وولّدت دراميّة الفيلم. مُنطلق سهّل عملية التقبّل، مقابل تخلّي المخرجة عن الحركات والمبالغات وقصص الحب المستعصية والمتشظية، التي اعتادها المُشاهد في السينما الهندية. مع هذا التغييب، أوجدت بديلاً: حبكة جيدة، واستثمار حركيّة المدينة ونشاطها، وحُسن اختيار مواضيع تُسلّط الضوء عليها، ما سهّل التلقّي رغم الطول النسبي لمدّة الفيلم (123 دقيقة).
ابتعدت بايال كاباديا في معظم المَشاهد عن المناظر الداخلية، وتجوّلت بالكاميرا (رانابير داس) في شوارع مزدحمة كثيرة في مومباي، مُطلقةً العنان لشخصياتها في شوارعها وأزقتها وساحتها. المناظر الداخلية الأخرى خارجيةٌ بطريقة ما، كعربات القطارات والحافلات المطلّة على المدينة، والشبابيك المفتوحة في المنزل، إذْ تظهر عبرها عظمة المدينة وحيويتها، وفي الوقت نفسه تعكس قسوتها وازدواجيتها، بالمشكلات المذكورة أعلاه، التي رغم كثرتها لم تقدر أنْ تسلب الممرضات إنسانيّتهن، كاهتمام آنو وبرابا بقطة حامل، ثم أخذها إلى الطبيب لمعاينتها والتأكّد من صحتها.
عكس "كلّ ما نتخيّله كضوء" جماليات عدّة: مناظر الازدحام والفوضى، تساقط المطر، خاصة عند تشكيله خطوطاً متوازية عبر أشعة المصابيح. كما استطاعت كاباديا ربط الحالات النفسية لشخصياتها بالمستوى البصري للفيلم، والأمثلة كثيرة ومتنوّعة: منظر تقرأ فيه برابا قصيدة أهداها لها زميلها الطبيب، مع ضبط الكادر في بيتها، وهي تتوسّط الغرفة، والنافذة مفتوحة، تنقل أضواء العمارات والأبراج السكنية في الخارج. صورة شعرية مُعبّرة وقوية بصرياً.
أظهرت بايال كاباديا تحكّماً واضحاً في مفاصل "كلّ ما نتخيّله كضوء": في بناء وتقديم قصص النساء المقهورات، إدارة الممثلات، استخراج انفعالات وعواطف كثيرة لهنّ، ما يدلّ أيضاً على أنّهن درسن تلك الشخصيات جيّداً، وعشن آلامهن وصراعهن المرير مع الحياة. ربما هناك من تقاطعت حياتها مع شخصيتها، فأظهرت براعة في تجسيدها.
"كلّ ما نتخيّله كضوء" من أجمل الأفلام السينمائية الهندية في السنوات الأخيرة. سيفتح أبواباً كثيرة أمام مخرجين يبحثون عن سينما مختلفة، تخرج عن السائد، وتستثمر في أوجاع الفرد.