"كريسمَس في ميلرز بوينت": تجربةٌ حسية خالصة

05 فبراير 2025
احتفال عائلي بعيد الميلاد: كورالية فائقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "كريسمَس في ميلرز بوينت" يعكس أجواء عيد الميلاد بروح مبتكرة، ويستعرض الانتقال من المراهقة إلى الشباب بقصص غير تقليدية، متجنبًا الحبكة التقليدية لتقديم تجربة حسية تتجاوز السرد القصصي.
- يُقدم الفيلم تجربة سينمائية غنية بتصوير أجواء عائلية حميمة، ويستخدم تاورمينا الكاميرا بمهارة لالتقاط لحظات عاطفية، مما يعكس تأثير السينما الأوروبية وهوليوود الكلاسيكية.
- يُعالج الفيلم قضايا اجتماعية مثل التضامن مع المحرومين، ويُبرز التناقضات في المجتمع الأمريكي، ويختتم بمشهد يعكس تحول الشخصية الرئيسية، مؤكدًا على موهبة تاورمينا كمخرج واعد.

 

كيف تُنجز فيلماً عن أجواء عيد الميلاد، وطابع الألفة اللامبالية الذي يشوبها، حيث لا يهمّ شيءٌ غير الاحتفال وتمضية وقت ممتع مع العائلة؟

إجابة المخرج الأميركي الشاب تايلر تاورمينا (35 عاماً)، عن هذا السؤال غير الهيّن تكمن في "كريسمَس في ميلرز بوينت": قطعةٌ فنية في شكل فيلم سينمائي، من أجمل ما عرضته الشاشات في العام المنصرم. إنّه ثالث روائي طويل له، يُعدّ امتداداً لتجربة مثيرة للاهتمام، يقودها سينمائيون شباب في إطار المجموعة المستقلّة "أومنيس فيلمز"، يسعون إلى تحدّي السينما السائدة، واقتراح بدائل جمالية أصدق بعكسها تعقيد الحياة الأميركية وغناها، أبرزهم تاورمينا وكارسون لاند، مدير تصوير "كريسمس"، ومخرج "إيفَس (Eephus)"، الذي اشتغل عليه تاورمينا بصفة منتج. شارك الفيلمان في "نصف شهر السينمائيين"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، وهذا إنجاز مهمّ للمجموعة.

ثلاث سمات تميّز سينما تاورمينا: مَيلٌ إلى تمثّل الانتقال من المُراهقة إلى الشباب، عبر قصص لا تملأ كلّ خانات "أفلام البلوغ"؛ كورالية فائقة (تجاوز عدد شخصيات فيلمه الأول "لحم خنزير على خبز شوفان"، المنجز عام 2019، المائة)؛ نفور من ديكتاتورية الحبكة، لميل إلى تصوّر حسّي للسينما، باعتبارها أكثر من مجرّد قصة تُحكى بالصوت والصورة.

منذ البداية، يؤطّر تاورمينا لقطات لواجهات منازل مزيّنة بالأضواء، بشكل مقلوب، من وجهة نظر الطفل أندرو، المستلقي على المقعد الخلفي للسيارة، رفقة والديه وأخته المُراهقة إميلي (الواعدة جداً ماتيلدا فليمينغ)، المتّجهة إلى منزل جدّته لأمه في "لونغ أيلاند" (غير بعيدة عن نيويورك)، حيث تجتمع العائلة الكبرى (المنتمية إلى طبقة وسطى ذات أصل إيطالي)، للاحتفال بعيد الميلاد.

على غرار الأفلام الكبيرة، يعكس مشهد الافتتاح روح الاقتراح الجمالي: وجهة النظر المندهشة للأطفال، بمنظور "رأس على عقب" الذي ينبئ برؤية مختلفة لأشياء اعتيادية، والخلاف الكامن بين الأم وابنتها الذي يشكّل إحدى الحبكات الصغيرة الخادعة، التي تعطي الانطباع بالانعطاف بالفيلم إلى منحى مختلف، أو نوع معيّن كالرعب (مشهد اقتحام طفل قبو المنزل)، أو كوميديا صريحة (شخصيتا شرطيَّين غريبي الأطوار، يؤدّيهما مايكل سينا وغريغ توركنتون)، أو الفيلم الاجتماعي (حين تطفو على السطح خلافات حول مصير الجدّة بين مناصري وضعها في دار رعاية ومن يحبّذون استمرارها في العيش بمنزل العائلة). لكنْ، سريعاً، يعود الحكي إلى مجرى اللامبالاة الأخّاذ.

هذا لا يمنع تطوّر السرد إيقاعياً، انطلاقاً مما يبدو، بدايةً، فوضى غامضة وغير مريحة، وشيئاً فشيئاً يُصبح إحساساً بتناغم وتناسق يغمران المشاهد بفضل حرارة الوجود في أجواء عائلية حميمة، يُعزّزها دفء أطباق المأكولات المتنوّعة، وألوان الهدايا، وأضواء الزينة المبهرة.

تدريجياً، يأخذنا الفيلم في تيار أحاسيس بصيغة جماعية، تختلط فيه أصوات شخصيات جذّابة من ثلاثة أجيال مختلفة، مُقيماً رابطاً ذاتياً مع الزمن، لعلّ أبدع لحظاته تكمن في مشهد استعراض سيارات الإطفاء، الذي تخرج له العائلة كلّها. يترقّب الجميع مرور موكب صغير لبضع ثوان، لكنّ تاورمينا يمطّ زمنه، محاولاً القبض على عربة "سانتا كلوز" المنفلتة، فتمتدّ أضواؤها على مساحة الشاشة كلوحة تجريدية توحي بفرح الأعياد، وبهجة مندهشة تفغر لها أفواه الأطفال.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الوازع الثاني لرفض الحبكة يتمثّل بطابع المعجزة (أليس كلّ فيلم سينمائي جيّد معجزة بحدّ ذاتها؟)، الملتصق بالمخيال المسيحي واحتفالات الميلاد، إذْ تُبطل قوانين الطبيعة في "ليلة الملائكة"، فتتعايش الذئاب مع الحملان في قوس سلام عابر، كما يتآلف ضابطان مع شبابٍ مشبوهين لا سقف يؤويهم، فيلهوا الجميع بأبواق إنذار سيارات الشرطة. يلقي تاورمينا نظرة حانية على المشرّدين، مُهدياً الفيلم إليهم بعبارة "إلى جميع التائهين... أتمنّى أنْ يجدوا طريقهم إلى المنزل عشية عيد الميلاد". لفتة إنسانية تعيد وضع هذه المناسبة الدينية في سياقها المفقود كمناسبة للتضامن مع المحرومين، بعد أنْ تحوّلت إلى فرصة "مركنتيلية" تؤجّج نزعة الرأسمالية إلى تسويق السلع بأي ثمن.

فكرةٌ ترد في نقاش إميلي وأقرانها من المُراهقين، في مطعم وجبات سريعة، بعد نجاحها في الانسلال خفية من المنزل، فتغدو علبة الهدية التي اقتنتها الفتاة باعتبارها هدية لوالدتها بمثابة "ماكغافين" هتشكوكي، يحشد قليلاً من الترقّب في الفصل الثالث من الفيلم. حتّى عن بعد، تظلّ العلاقة قائمة بين الفتاة وأمّها، بفضل انتقال رائع من لقطة لإميلي التي تتأخّر عن رفاقها لتحدّق في السماء، إلى نظرة الأم التي تشاهد مجسّمَ حيّ مُصغّراً من أعلى، في لمحة تخاطر تقول الكثير عن علاقة الانجذاب/ النفور التي تجمعهما.

مؤشّرات دالّة إلى قدرات تاورمينا اللافتة في كتابةٍ تشي بمزيج تأثّر بتيار سينما المؤلف الأوروبية من جهة، والإرث الرومانسي الذي طبع العصر الذهبي لهوليوود في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته من جهة أخرى، بغية ابتكار قصص تمور بتناقضات أميركا، والحالة السيئة التي تتخبّط فيها حالياً، وتطرق برهافة مواضيع متفرّقة كالعنصرية والبطالة وأزمة العلاقة مع الأجداد في أرذل العمر، إلى تأثير ألعاب الفيديو على اليافعين، لكن بنبرة حانية ومُحبّة للبلد وثقافته.

يُبرز الفيلم موهبةً في تكوين الكادرات، وكيف يمكن أنْ تلعب حركة الكاميرا دوراً كبيراً في التعبير عن أحاسيس مركّبة، حين تقتحم شاشة تلفاز (أحد المؤشرات القليلة التي تنبئ بأنّ القصة تدور في بداية الألفية)، تعرض شريط "في. إتش. إس" لحفل زفاف قديم، أو تنتقل بسلاسة بين الشخصيات لالتقاط شذرات من حوارات ثنائية متفرقة على مأدبة العشاء، أو تركّز على إيماءات معينة كفسيفساء حركات الأيدي والأعين الرائعة، التي تجتمع لتكوّن مشهد اختلاء أزواج المراهقين في السيارات لتذوّق طعم القبلة الأولى، وكيف يتحوّل مشهد قراءة مقطع من مشروع رواية، يكتبها خفيةً الخال راي (توني سافينو)، من صخب الاحتفال والانتشاء بالكحول، إلى تأثّر بالغ بمونولوغ شخصية روائية، تغرورق له الأعين في وقت متأخر من الليل.

تتحوّل إميلي، في المشهد الختامي، بضربة سيناريستية بارعة، إلى مزيج من "سانتا كلوز" و"ذات القبعة الحمراء". تتأمّل في مناخات ساحرة، يختلط فيها الحنين إلى الأعياد بشعور العبور إلى مرحلة جديدة من حياتها، من دون أنْ تستوعب فعلياً ما حدث في الطريق (نتذكر رواية "شباب" لباتريك موديانو)، ما يؤكّد الشعور بأنّنا إزاء سينما مخرج جدّ واعد، ينبغي وضع عين يقظة على أعماله المقبلة، نظراً إلى القيمة الثمينة التي تكتنزها أفلامٌ، تمنح الإحساس بخوض تجربة لا يمكن أنْ تمرّ عبر وسيط آخر غير السينما، ولغتها الخالصة، في زمن تهيمن فيه قوى التنميط والرهان على السائد.

المساهمون