Skip to main content
كتاب المؤتمر: رسم أصول الموسيقى العربية
هيثم أبوزيد
انعقد المؤتمر عام 1932 لمّا كان فؤاد الأوّل سلطاناً على مصر (Getty)

في المرسوم الملكي وردت الخطوات الرسميّة والعمليّة لأهم حدث موسيقي في القرن العشرين، إذْ نصّ المرسوم: "نحن فؤاد الأول ملك مصر. وبعد الاطلاع على ما قرره مجلس الوزراء في 20 يناير/كانون الثاني سنة 1932، وبناء على ما عرضه علينا رئيس مجلس وزرائنا، أمرنا بما هو آت: تشكيل لجنة لتنظيم مؤتمر الموسيقى العربية الذي سيُعقَد في القاهرة في مارس/ آذار 1932". وثائقُ هذا المؤتمر جمعت في كتاب شهير طبعته حينها وزارة المعارف العمومية، وما زال هذا الكتاب، ورغم مرور نحو تسعة عقود، يمثل مرجعاً بالغ الأهمية للباحثين والدارسين في تاريخ الموسيقى الشرقية الكلاسيكية. فأوراقه تروي قصة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها أو نسيانها، وليس ذلك لكونها تمثل توثيقاً لماضٍ عريق، أو تاريخٍ فني عظيم، بل لأن مستقبل الموسيقى العربية، وازدهارها وتطورها، واستعادة الدرس الموسيقي لعمقه وجديته، لا بد وأن يكون مبنياً على الأصول التي حملها "كتاب المؤتمر"، باعتبار هذه الأصول هي السبيل الوحيد للخروج من حالة التيه والضياع والضعف التي يعانيها الغناء والموسيقى في بلاد العرب جميعاً. تكوّن المؤتمر الذي استمرت أعماله مدة 3 أسابيع من عدة لجان هي: "المسائل العامة" و"المقامات والإيقاعات والتأليف" و"السلم الموسيقي" و"الآلات والتسجيل" و"التعليم الموسيقي" و"تاريخ الموسيقى والمخطوطات". وحضره موسيقيون وعلماء من دول عدة منها: سورية ولبنان والمغرب وتركيا وإسبانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا والمجر والنمسا وتشيكوسلوفاكيا. كما شاركت فرق موسيقية من العراق والجزائر وتونس. 

وبالطبع، شارك عدد من أبرز الموسيقيين المصريين في أعمال المؤتمر وانخرطوا في مختلف اللجان، ومن أبرزهم: صفر علي أفندي ومصطفى رضا بك وداود حسني والشيخ درويش الحريري وكامل الخلعي أفندي، ومحمد عبد الوهاب أفندي ومنصور عوض أفندي. كما شارك عازف الكمان سامي الشوا، والموسيقي السوري علي الدرويش.

وقد كان تجمع المستشرقين والعلماء الأوروبيين المهتمين بالموسيقى العربية غير مسبوق، كما كانت الجهود العلمية والتوثيقية كبيرة. ويمكننا أن نتوقف أمام إحدى أهم لجان المؤتمر، وهي لجنة المقامات والإيقاعات والتأليف، التي ترأسها الموسيقي التركي رؤوف يكتا بك، وشغل الموسيقي المصري صفر علي منصب سكرتيرها. بذلت هذه اللجنة جهوداً كبيرة جداً، لتوثيق المقامات العربية في جانبها النظري. فقد اعتمدت اللجنة التقرير الذي قدمه البارون، رودلف دي أرلنجر، لشرح وتحليل أكثر من 90 مقاماً.

استمرّت أعمال المؤتمر لمدّة ثلاثة أسابيع وأفرز عدّة لجان 

ويمكن أن نلخص خطة أرلنجر في شرحه للمقامات بما يلي: قسم الرجل المقامات إلى مجموعات وفقاً لدرجة ركوزها، فجاءت في ثماني مجموعات هي: اليكاة، عشيران الحسيني، عشيران العجم، العراق، الراست، الدوكاه، السيكاة، الجهاركاه. وفي درجة العراق مثلاً، ساق التقرير 9 مقامات هي: العراق، راحة الأرواح، فرحناك، بسته أصفهان، دلكش حوران، أوج، بسته نكار، أوج آرا، رونق نما. وتحت درجة الراست، عرض التقرير 19 مقاماً: راست، سوزدلارا، سوزناك، رهاوي، ماهور، زاويل، حيان، نيرز راست، بسنديده، دلنشين، سازكار، نهاوند، نهاوند كبير، نوا أثر، نكريز، نهاوند مرصع، حجاز كار، كريدلي حجاز كار، طرز نوين. وكانت طريقة عرض المقامات كما جاءت في كتاب المؤتمر عميقة في التناول، إذْ يبدأ باستعراض سلّمي لأبعاد المقام عبر ديوانين موسيقيين "أكتافين" صعوداً وهبوطاً. ثم يستعرض عقوده أو أجناسه ضمن الديوانين صعوداً وهبوطاً. ثم يوضح دائرة عمله، والطريقة المثلى للدخول فيه، فليست كل المقامات تستهل من جنسها الأسفل. وبعد ذلك يوضح النغمات التي يجب التركيز عليها كي تتضح شخصية المقام.

موسيقى
التحديثات الحية

ويمكن أن نشير إلى أسلوب الكتاب في العرض، وذلك عن طريق شرحه لمقام الكريدلي حجاز كار، المعروف في مصر بالحجاز كار كرد، فيوضح الكتاب درجاته السلمية صعودا بأنها: راست- زيركولة- كورد- جهاركاه- نوا- نيم حصار- عجم- كردان- شاهناز- سنبلة- جواب جهاركاه- جواب نوا- جواب نيم حصار- جواب عجم. ولا تختلف أي من هذه الدرجات في الهبوط. ثم يوضح الكتاب عقود المقام الأربعة في الديوانين فيبين أنها: كرد ذو الخمس على الراست، نهاوند ذو الخمس على الجهاركاه، كرد ذو الخمس على الكردان، كرد على جواب النوا. ثم يشدد الكتاب على ضرورة أن يكون استهلال هذا المقام من جوابه أو درجاته العليا. وأن يكون الشروع فيه بالعمل في دائرة عقد الثالث، مع استحباب الصعود للعقد الرابع إن أمكن. وفي الهبوط يوضح الكتاب أن يكون بالتدرج من العقد الرابع إلى الثالث، ثم إلى الثاني مع الاستقرار جزئياً على درجة الكردان، ثم على درجة الجهاركاه، ثم يكون النزول إلى العقد الأول ليدور العمل بين درجتي الراست والكردان، أي في دائرة العقدين الأول والثاني.

صحيح أن قرارات المؤتمر وتوثيقاته لم تنعكس لاحقاً على الحياة الموسيقية والغنائية في مصر، وكانت السنوات التالية للمؤتمر هي بداية عصر الموسيقى المهجنة، وباسم التطوير والتجديد كانت موجة التغريب عاتية، وتبنى بعض كبار أهل الفن مذهب تبسيط الخطاب الغنائي، وانحازوا إلى تقديم الأعمال الشعبية ذات الأبعاد التجارية. لكن لا يمكننا أن نغفل أن من أهم أسباب ضعف أثر المؤتمر هو تصديه لقضايا متعددة وكبيرة. وإذا نظرنا إلى مهمة كل لجنة من لجانه، لاكتشفنا أنها مهمة ضخمة جداً، تحتاج إلى مؤتمر خاص ولجان متعددة.