كامل البهتيمي... قصائد الإنشاد الوقور

17 مارس 2025
حرص في إنشاد معظم قصائده على التدرّج الصوتي (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تميز الشيخ كامل البهتيمي بصوته القوي وأسلوبه الفريد في الإنشاد الديني، حيث تأثر بالتلاوة القرآنية وقدم أداءً كلاسيكياً مقنعاً بعيداً عن الجمل البهلوانية.
- رغم أن الإنشاد كان جزءاً هامشياً من مسيرته، إلا أن البهتيمي ترك بصمة واضحة من خلال تسجيلات الإذاعة، لكن تراثه يفتقر إلى توثيق المحافل الجماهيرية.
- وُلد عام 1922 ورحل عام 1969، وترك إرثاً غنياً من الإنشاد، لكن توثيق أعماله يواجه تحديات بسبب نقص المعلومات عن الملحنين المتعاونين معه.

تمثّل الابتهالات والتواشيح التي أداها الشيخ كامل البهتيمي حالةً خاصةً في تاريخ الإنشاد الديني؛ فقد جاء معظمها في قالب القصيدة، وبأبيات من عيون الشعر العربي، وقد أداها الشيخ بأسلوب بالغ الأسر والجلال والمتانة.

كان البهتيمي صاحب صوت قوي عريض، بمساحة تجاوز ديوانين كاملين، ويمكن إدراك تلك المساحة في أغلب تسجيلاته بين درجة لا عشيران وجواب درجة الحسيني. إلّا أن بعض تسجيلاته التي استهلها من درجة أعلى لامس فيها جواب الكردان، وربما - وفي مرات نادرة - وصل صوته إلى درجة جواب الري، أو ما يُعرف بجواب المحير.

مع هذه المساحة الواسعة، والقوة الهائلة، والعرب الأصيلة، يرسل البهتيمي صوته سليماً نقياً في كل درجاته، من أخفضها إلى أعلاها، فهو من الأصوات القليلة التي يلتذ لها السامع قراراً ووسطاً وجواباً وجواب الجواب. وكان أيضاً من تلك الثلة التي جمعت بين تلاوة القرآن وبين الإنشاد الديني، لكن يبدو أن الإنشاد كان على هامش مسيرته، فما تركه من تسجيلات التلاوة أكبر كثيراً مما ترك من القصائد والتواشيح.

لعل أهم ما يلفت انتباه المستمع في قصائد وابتهالات البهتيمي هو هذا الوقار الشديد، والصرامة الأدائية في كل تسجيلاته. يعرف عالم المشايخ الذين جمعوا بين التلاوة والإنشاد إشكالية تأثير الابتهالات والتواشيح وقصائد المديح، وغيرها من ألوان الإنشاد الديني في أداء قارئ القرآن، وتفاوت مقدار هذا التأثير بين شيوخ الفن؛ فهو ملموس عند علي محمود، وواضح عند طه الفشني، ومنعدم عند محمد الطوخي، صارخ عند نصر الدين طوبار. مع البهتيمي ينعكس الأمر كلياً، إذ تؤثر التلاوة في الإنشاد، وتسري الروح التي تميّز "القارئ" إلى صوت المنشد وأدائه. لا يميل الشيخ كامل البهتيمي إلى المفاجآت، ولا إلى الجمل ذات الطابع البهلواني، ولا إلى سلالم "الكروماتيك"، ولن يجد المستمع في تسجيلاته مع البطانة تسليمات بالحرف الأخير أو بجزء منه، كما كان يفعل علي محمود، ولا آهات ناعمة كالتي يطلقها طه الفشني.

يكشف الاستماع إلى قائمة تسجيلات كامل البهتيمي عن حضور قوي للبطانة، التي تؤدي الألحان الثابتة بتماسك مدهش، في مقابل الجمل الارتجالية التي يخلقها الشيخ ضمن السياق النغمي من دون إعداد مسبق. لكن طريقة البهتيمي، وأسلوبه الإنشادي الصارم الوقور، يجعل تلك الجمل الارتجالية تبدو كأنها قد أعدّت سلفاً، أو أنها مرّت بمرحلة تحضيرية؛ فالرجل يبدأ الجملة النغمية، ثم يسير بها سيراً منطقياً، ثم يجهز لمرحلة التسليم بمستوى عالٍ من الكلاسيكية المقنعة التي تصل إلى حد توقع ما سيفعله.

ومن مظاهر تأثير التلاوة في إنشاد البهتيمي حرصه في معظم قصائده على التدرج الصوتي، أي الاستهلال بقرار المقام، ثم المرور إلى وسطه، ثم الصعود إلى درجاته العليا. نعم، قد تكون هناك استثناءات في بعض تسجيلاته، ومنها مثلاً قصيدة "يا راحلين إلى منى بقيادي"، لكن طريقة التدرج الصوتي هي الغالبة عنده، بالضبط كما هو مستقر في مدرسة التلاوة المصرية. وإذن، يمكن للمهتم بالأصوات المشيخية أن يصدر حكماً، يقرّر فيه أن الشيوخ الذين جمعوا بين التلاوة والإنشاد تأثرت تلاوتهم -غالباً- بالروح الإنشادية، وأن كامل البهتيمي جاء أداؤه معاكساً، فتأثر إنشاده بأسلوب التلاوة.

لكن من المهم جداً أن ينتبه المستمع إلى أن حالة "القرأنة" التي تهيمن على أداء كامل البهتيمي في قصائده وابتهالاته، لا تتورّط في التأثر السطحي، ونقل أحكام التجويد إلى الإنشاد الديني كما يفعل أكثر المنشدين الجدد. ومثلاً، وبالرغم من أن البهتيمي يعد واحداً من كبار القراء في القرن الماضي، فإنّه في تأدية القصائد والابتهالات لا يعطّش حرف الجيم نهائياً. 

يمكن للمستمع أن ينصت إلى توشيح "شهدت على الربا زهراً ندياً"، ويرى نطق الرجل لكلمات: أريجه، أشجتني، شجياً، تجلى، جئت، جدود؛ أو ينتقل سريعاً إلى قصائد أخرى، وينصت إلى أبيات: "فؤادي غدا من شدة الوجد في ظما"، أو "مهجتي قد نلت كل الأرب"، أو "كما سرى البدر في داج من الظلم". في كل هذه التسجيلات، لا يعطش الشيخ حرف الجيم، وهو نهج كبار المنشدين المصريين في الأغلبية الساحقة من تسجيلاتهم مع استثناءات نادرة جداً. ولأن أكثر المنشدين الجدد قد انقطعت صلتهم بالتراث القديم، فقد جاء تأثرهم بالتلاوة سطحياً، يصل في بعض الأحيان إلى تطبيق أحكام التجويد، بما فيها الإدغام والإخفاء ومقادير المدود، وقلقلة حروف القلقلة، وتلك الأخيرة تطوّرت مع وصول الفرق السورية إلى مصر لتصبح قلقلة لأكثر الأحرف الساكنة، حتى وإن لم تكن من الحروف المقلقلة تجويدياً.

يمكن لمن يبحث في تراث البهتيمي أن يتعرّف إلى معظم أصحاب النصوص التي شدا بها الرجل، ومنهم مثلاً الإمام عبد الرحيم البرعي اليمني صاحب قصيدة "يا راحلين إلى منى بقياد"، أو أمين الجندي الحمصي صاحب قصيدة "يا نبياً سمت بك العلياء"، أو الإمام عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر صاحب قصيدة "مهجتي قد نلت كل الأرب". لكن الأمر يختلف عند البحث عن الموسيقيين الذين توّلوا تلحين هذه القصائد، فيصبح الفوز بالمعلومة الدقيقة أصعب. أكثر التواشيح المنشورة للشيخ كامل البهتيمي تفتقد إلى البيانات الأساسية، وفي مقدمتها أسماء الملحنين.

ولد الشيخ كامل البهتيمي عام 1922، ورحل مبكراً عام 1969، قبل أن يجاوز 47 عاماً. ورغم قصر حياته، إلا أنه امتلك مع الأداء الصوتي، تلاوة وإنشاداً، مسيرة مهمة تقترب من 30 عاماً كاملة. ولا ريب أنه خلال تلك العقود الثلاثة قد أحيا كثيراً من المحافل الإنشادية، في المساجد والسرادقات والموالد والمناسبات الدينية والأفراح وغيرها.

لكن مع الأسف، لم يظهر له تسجيل واحد للإنشاد وسط الجماهير، ولم يعرف الهواة من قصائده وابتهالاته إلا تلك الأعمال التي سجلها في استوديوهات الإذاعة، وهي - على أهميتها - قليلة نسبياً... وإذا كانت محافله الجماهيرية لم تحظ بالتسجيل، فالمؤكد أن الإذاعة تمتلك في أرشيفها عدداً من التسجيلات التي لم تنشر بعد، ولا تبث أصلاً عبر الأثير. 

أثرى كامل البهتيمي بصوته عالم الإنشاد الديني بعدد من القصائد الجليلة، والتواشيح المتسمة بالقوة والفخامة. يتذكّر المستمعون من أمثلتها: "شهدت على الربا زهراً نديا"، و"يا نبياً سمت بك العلياء"، و"بذكر محمد تحيا القلوب"، و"أهواك يا كعبة الأنوار أهواك"، و"مهجتي قد نلت كل الأرب"، و"فؤادي غدا من شدة الوجد في ظما"، و"هل غير بابك للمؤمل باب".

إلى جانب ذلك، شدا البهتيمي بأبيات من بردة البوصيري، وأيضاً اشترك بأداء دعاء باللهجة الدارجة في البرنامج الإذاعي "الباني طالع". وما زال تراث الرجل بحاجة إلى بحث وتوثيق، لا سيما بعد أن أصبح من المؤكد أنه اشترك بصوته في عدد من الصور الإذاعية الدينية، وأدى بعض الأناشيد والقصائد بمصاحبة موسيقية. صحيح أن التوثيق يصبح عملية مجهدة عند شح المعلومات، لكن الجهد يهون في خدمة ذلك الفن الرفيع وتلك المتعة الكبيرة التي يهبها صوت الشيخ كامل البهتيمي.

المساهمون