استمع إلى الملخص
- تعكس التقنية انجذاباً نحو النوستالجيا والحنين إلى عوالم الكارتون اليابانية، وتُستخدم كوسيلة للهروب من تعقيدات الواقع بإضفاء البراءة والخيال على صور الحاضر.
- تثير التقنية تساؤلات حول حقوق الملكية الفكرية والأسلوب الفني، وتثير قلقاً بشأن تحويل صور العنف إلى رسوم كارتونية، مما يعكس استغلالاً غير أخلاقي للتكنولوجيا.
لم يعد بالإمكان تجاهل الميزة الجديدة التي طرحها نموذج الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي"، والتي تسمح بتحويل أي صورة إلى كارتونية تحاكي عوالم الرسوم المتحركة اليابانية، أو منتجات استوديو Ghibli الذي أسسه هاياو ميازاكي. هذه التقنية، رغم طرافتها للوهلة الأولى، اجتاحت الفضاء الرقمي، حتى بدت في كل مكان. من الصور الشخصية، إلى تسريبات صور بشار الأسد، كل ما هو مرئي أضحى عرضة للتحول إلى كارتون.
لا نحاول هنا انتقاد الحنين إلى زمن الكارتون، لكن هذه التجربة - حيث نغذي الذكاء الاصطناعي بصورنا لتحقيق متعة عابرة وبعض الإعجابات - أثبتت خطورتها. نتذكر هنا تجربة التطبيق الذي كان يحوّل صورنا إلى هيئات متقدمة في السن، وما أثارته من نظريات مؤامرة حول تسرب الصور إلى أجهزة استخباراتية تجمع بيانات كل مستخدمي "فيسبوك". ما يثير الاهتمام حقاً، هو هذا الانجذاب المتزايد نحو الطفولي واستعادة ماضٍ لم يعد ممكنًا استعادته بشكل فعلي.
تبدو العودة إلى هذا الماضي مبنية على فكرة بسيطة: إن عوالم الكارتون اليابانية، خصوصاً تلك التي استحوذت على خيال أجيال مختلفة، قدمت حكايات عالمية نعم، لكنها إنتاج غريب عن بيئاتنا الأصلية. نذكر هنا "هايدي" التي تعيش في جبال الألب، أو "ليدي أوسكار" التي تدور أحداثها في فرنسا، أو حتى "مغامرات السندباد". هذه المنتجات الأجنبية، التي تمت "عرْبنتها" في حالتنا، استحوذت على مخيلتنا رغم طبقات الرقابة التي خضعت لها. ورغم كل ذلك، بقيت صورها عالقة في الذاكرة، تحيلنا إلى زمن "جميل" وأكثر بساطة، هو زمننا الشخصي، باعتبارنا مشاهدين للرسوم المتحركة.
هذا الزمن، الذي يختلف باختلاف الأجيال، تحول إلى كليشيه مع مرور الوقت. النوستالجيا اليوم باتت لصورة مثالية، وهمية، يمكن استعادتها عبر صور الحاضر التي يُعاد إنتاجها بتقنيات جديدة. كأننا نحاول عبر هذه العملية إضفاء مسحة من البراءة على الواقع، أو تجريده من كل ما يحمل من أوجاع ومآسٍ وإبادات وفقر. كأنّنا نسعى لخلق لحظة متخيلة خالية من الشر، بالمفهوم الطفولي الذي فقدناه مع مرور الزمن، سواء بسبب التقدّم في العمر، أو بسبب تغيّرات العالم من حولنا.
ما زال السؤال عن حقوق الملكية الفكرية والأسلوب الفني غير مطروح بشكل جدي بعد هذه الموجة من الصور الكارتونية. ورغم أن الأسلوب نفسه ليس محمياً بحقوق النشر، إلا أننا لم نشهد حتى الآن موجة من الاحتجاجات من قبل الفنانين كما حدث سابقاً حين اتهمت شركة OpenAI بسرقة أعمال فنانين وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي عليها لإنتاج صور ولوحات تباع في المعارض.
إثر هذه الموجة، عاد تصريح هاياو ميازاكي الشهير للتداول: "أشعر أن هذا إهانة للحياة نفسه"، تعليقاً على تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذا التصريح، الذي يحاول البعض اعتباره انتصاراً للحرفة ذاتها، يعبر عن رفض لصناعة الرسوم المتحركة التي تتطلب جهداً مضنياً ووقتاً طويلاً لإنتاجها، والتي باتت اليوم تُستبدل بنقرات سريعة تحوّل أي صورة إلى مشهد كارتوني.
ربما الأسوأ في كل هذا المشهد هو كيفية استغلال التقنية بشكل يتجاوز مجرد التسلية. على سبيل المثال، استخدمت إدارة ترامب السابقة حساب البيت الأبيض عبر منصة إكس لإعادة إنتاج صورة لمهاجرة في أثناء إلقاء القبض عليها. كان مشهداً قاسياً، لكن تحويله إلى رسم كارتوني سحب منه كل سياقه الحقيقي وحوّله إلى خدعة أو مجرد لعبة بصرية.
المقلق هنا، أن هذا الاتجاه قد يتوسع ليشمل صور الموتى والجثث والقتلى في منطقتنا، حيث يمكن تحويل صور الإبادة والعنف إلى رسوم متحركة تُفرّغ من دمائها وألمها. كأن الضحايا يتحولون إلى مجرد علف للذكاء الاصطناعي الذي لا يعرف حداً، بل يلتهم كل شيء ويعيد إنتاجه سلعةً متاحةً للجميع.