"قنطرة" التونسي في وهران العربي 13: العاديّ يلتقط واقعاً وقلقاً
استمع إلى الملخص
- يعالج الفيلم قضايا الفقر والبحث عن بدائل في عالم سفلي، حيث يواجه الأصدقاء تحديات أخلاقية واجتماعية بعد قرارهم ببيع المخدرات في ملهى ليلي.
- يطرح الفيلم أسئلة أخلاقية حول القيم والعلاقات والسلطة، مع ترك الإجابات مفتوحة، مما يعكس تعقيد الواقع التونسي والعربي.
ثلاثة أصدقاء يعثرون على حقيبة مخدّرات، فيخوضون مغامرة تبدأ برغبة في جمع مال يحتاجون إليه، وتنتهي، بعد كشفٍ موارب سينمائياً لأحوال بيئة واجتماع وعلاقات وأفراد، بمواجهة الذات، وإنْ بأسئلة مُعلّقة، وبشكل غير مباشر. هذا في "قنطرة" (2024)، للتونسي وليد مطار، المُشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة 13 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2025) لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي.
إنّه عالم سفليّ، إنْ يصحّ وصف ما يعيشه هؤلاء الثلاثة بعد العثور على الحقيبة، لكنْ قبلها أيضاً. الفقر أساس، وقلق المواجهة سببٌ لقبول واقع، يريدون خروجاً آمناً منه. الارتباكات في يومياتهم دافعٌ إلى بحثٍ عن بدائل، فتكون البدائل، بعد اختبار العالم السفليّ، بداية دربٍ آخر، معالمه غير واضحة كلّياً فيبقى مُعلّقاً، رغم أنّ فيه ما يشي بكون البداية تلك انعطافة مطلوبة لتحرّر من عيشٍ سابق، مُثقل بهموم واختناق واستسلام شبه كامل لروتين مُتعِب.
مفردة "قنطرة"، التي تعني جسراً، تُحيل إلى حاصلٍ في لحظات درامية، غير متينة في ابتكار شكلها السينمائي، مع أنّ هناك ما يوحي بتحقّقها، ولكلّ واحد من الأصدقاء الثلاثة خيارات يتّخذها، بعد اكتشافات ذاتية لمسائل ستكون صادمة له، إلى حدّ ما (هناك ما يُفترض به أنْ يكون "عبوراً" من حالة إلى أخرى): فؤاد (محمد أمين حمزاوي) مخرج شاب، يريد إنجاز الأهمّ في مهنةٍ متطلّبة. يُساعد صديقه تيتا (سيف الدين عمران) في تصوير فيديو كليب لأغنية جديدة، تؤدّي صفا (سارة حناشي) دور البطولة فيه.
واضحٌ، منذ البداية، أنّ غياب المال سيوجّه كلّ منهم إلى خيارات وقرارات، خاصة بعد عثورهم على الحقيبة (هناك ما يشي، بتحايل مبطّن ربما، بأنّها ستكون أشبه بصندوق باندورا لهم جميعاً، بكل ما يُحدثه الصندوق بعد فتحه)، فيُقرّرون فوراً بيعها (المخدرات) في ملهى ليلي.
المذكور سابقاً فتاتٌ من مسائل متفرّقة، رغم أنّها النواة الدرامية للنص السينمائي (كتابة رضوان الدريدي وليلى بوزيد ووليد مطار). والمسائل المتفرّقة لن تقلّ أهمية عن المذكور هذا، فـ"قنطرة" يحاول غوصاً درامياً في وقائع عيش "على حافة الحياة"، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا عن حجم البؤس والخراب والفقر، وهذه كلّها (إلى مسائل أخرى) عوائق تحول دون قدرة على ابتكار المختلف، أو على مرور آمن ليوميات غير عادية.
هناك أسئلة أخلاقية إزاء مصائب اجتماع وعلاقات، ماثلةٌ في السرد الحكائي لمسارات الأصدقاء الثلاثة الذين، ببيعهم المخدرات، يكتشفون تدريجياً عالماً غير معروف لهم، وإنْ يُقيموا إلى جانبه أعواماً مديدة (إنْ يكن فؤاد المتعاطي الوحيد بينهم للمخدرات، أمام دهشة الآخرَين، فهذا لا يعني أنّه مُقيمٌ كلّياً في ذاك العالم)، والأسئلة تلك مفتوحة على القِيَم والعائلة والشقاء والعلاقات السوية (الغائبة؟ شبه الغائبة؟) والسلطة (حارس الملهى مثلاً)، وغيرها. أمّا الإجابة، فحاضرة مواربةً في ثاني روائي طويل لوليد مطار، بعد "شرش" (2017): الخوف من بطش السلطة يحثّ على التخلّص من المخدرات المتبقية، وعلى هروبٍ متنوّع الأشكال لكلّ صديق منهم، وعلى إنهاء مرحلةٍ، بعد تبيان مساوئها وتخبّطاتها ومتاهاتها.
الإجابة غير مُكتملة، مع أنّ مطار يوحي بتمسّكه بقِيَمٍ، يرى أنّ المجتمع التونسي (والعربي، كما يقول في دردشة بعد عرض الفيلم) يفقدها. فالإجابات، إنْ يُعثر عليها، لن تكون كاملة وحاسمة، لأنّ كلّ فردٍ يرى الأسئلة ويعيشها بطريقة تختلف عن الآخر. كما أنّ السينما غير معنية بإجابات كاملة وحاسمة، فإجابات كهذه تقتل السينما بدلاً من أنْ تُحييها. ما يفعله مطار، تحديداً في الفصل الأخير، يعكس قرارات فردية، تبدو لكلّ من فؤاد وتيتا وصفا "حلاّ" ما، فالوُجهة غير معروفة، والدرب إليها أيضاً، لكنّ هذا القرار "صائبٌ" لكلّ منهم، أقلّه في تلك اللحظة.
قراءة كهذه تمنح "قنطرة" أكثر مما فيه، بصرياً ودرامياً وسرداً، مع أنّ اشتغاله السينمائي عادي، يتحرّر من فذلكة الصورة (تصوير طيب بن عَمُور)، بينما التوليف (روشن ميزوري) مبسّطٌ في ربط المسارات الحكائية والدرامية بمهنية تتلاءم مع ما يُطلب منه. أمّا الأداء، فعادي، مع مبالغة أحياناً في لحظات عدّة، وغياب شبه كامل للفعل الدرامي في تحريك أحداثٍ وشخصيات، والأخيرة مصدومة من اكتشافاتٍ لها في الحياة والبيئة والعلاقات، بينما الأداء غير متوافق كلّياً مع صدمة الاكتشاف، أحياناً عدّة.
هناك أيضاً غياب الترجمة السينمائية لما يُفترض به أنْ يكون صراعاً أخلاقياً، وهذا يُغيِّب، تلقائياً، الفعل الدرامي لصالح متتاليات بصرية، تسرد الحكايات والمواقف والأحداث، فتبدو كلّها كأنْ لا نهاية لها.