"قطار الأطفال" لكريستينا كومنشيني: واقعية فادحة ببُعد جمالي
استمع إلى الملخص
- يستلهم الفيلم من الواقعية الإيطالية الجديدة، مع التركيز على الحياة اليومية والتفاصيل الإنسانية، حيث يعكس السيناريو والإخراج وحدة الشكل والمضمون، مما يخلق تجربة سينمائية غنية ومؤثرة.
- رغم النهاية السعيدة، يفقد السيناريو قوته بعد الدقيقة 70، مقارنة بفيلم "سارق الدراجة" لفيتوريو دي سيكا الذي يقدم نهاية أكثر قوة ودلالة.
تستحق كلّ رحلة ناجحة أنْ تُروى، كما في "قطار الأطفال" (2024)، لكريستينا كومنشيني: رحلة جوع وحفا إلى شبع وحذاء فاخر. لكشف التحوّل، استخدمت كومنشيني "فلاش باك" طويل يُرضي المتفرّج الذي يريد أنْ يعرف كيف كانت الشخصية، وكيف أصبحت.
ما صلة بداية الفيلم بنهايته؟ الحنين إلى المكان. كلّ مكان أساسي يظهر مرّتين بشكل متباعد. وضع السيناريو (كومنشيني مع فوريو أندريوتي وجوليا كالندا وكاميلّي دوغاي، عن رواية بالعنوان نفسه لفيولا أردوني، صادرة عام 2019)، شخصياته في مقلاة حارقة. الواقع محور الشر، وليس الشخصيات. رغم بؤس المكان، يُشفي الفيلم مُشاهده بلقطات مضادة للفقر الوجداني.
بدأ "قطار الأطفال" بالجملة نفسها التي افتتح ألبير كامو بها روايته "الغريب" (1942). ما العلاقة؟ وحدة الحدث والزمن. أمٌّ وحيدة تُربّي طفلاً في مرحلة انتقال مبكرة إلى المُراهقة. طفلٌ يراقب نظرات الرجال إلى أمّه، ويلاحظ الحركات الصغيرة الدالّة. يتلصّص بحذر، ويحتار: هل يحمي أمّه من الغرباء، أمْ يحتقرها لأنّها تتعرّى أمام بعضهم؟ لحسن الحظّ، لديه دليل سلوكي فادح على مدى حبّ أمّه له. يصعب على امرأة أنْ تُربّي طفلاً بعيداً عن أبيه، وفي مرحلة انتقال إلى المراهقة.
يعرض الفيلم أطفالاً يلعبون مشاهد حربية في نابولي (جنوبي إيطاليا)، في الحرب العالمية الثانية. يلعبون في أزقّة لا رجال فيها، كما تكدح أرامل وأمهات وحيدات وأطفال حفاة جائعين. من سيساعدهم؟ تقف الراهبات في الممرّ المؤدّي إلى مقرّ الحزب الشيوعي، للتحذير من إرسال الأطفال إلى سيبيريا جوزيف ستالين. هذه إشاعات الكهنة ضد الشيوعيين. وقعت الأمّ بين فكّي الكنيسة والحزب، بينما الدولة الإيطالية غائبة عن رعاية أطفالها. يبدو أنّ الروائية أردوني من تلامذة أنطونيو غرامشي.
يتناول أطفال شمالي إيطاليا لحم البقر، ويمضون وقتهم في المدارس، بينما يتناول أطفال الجنوب لحم الفئران، ويكدّون ويكدحون. هكذا عرضت كومنشيني الفوارق التي سمّاها غرامشي مشاكل الجنوب الإيطالي، في كتابه "دفاتر السجن" (1948).
"قطار الأطفال" حنين إلى الواقعية الإيطالية، وتأريخ لما فعله رفاق غرامشي من أجل أطفال الجنوب الإيطالي الحفاة، رغم الحرب الأيديولوجية التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد الحزب الشيوعي الإيطالي. فكتابات غرامشي مدخل قبْلي لمشاهدة وتمثّل وتأويل أفلام الواقعية الجديدة، في ظلّ الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين شمال إيطاليا وجنوبها. وُلد غرامشي في سردينيا (الجنوب)، جزيرة الصيادين، ليس بعيداً عن جزيرة صقلية، حيث صوّر لوكينو فيسكونتي الصيّادين لا الممثلين في "الأرض تهتز" (1948).
المقالة مديح لوحدة الشكل والمضمون في الواقعية الإيطالية الجديدة. واقعية فادحة ببُعد أسلوبي جمالي وفني، يتحقّق فيها سردٌ يبدو فطرياً، لا يحمل أيّ قصديّة تأويلية ثقافوية مسبقة.
حدّد أندريه بازان سمات أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة بسيناريو منظّم، فيه سيطرة على الزمن وحبكة شعبية، ويعتمد حكايةً تستخدم قوانين القص الشفهي. سردٌ بسيط يُقدّم الحياة الإنسانية على حافة التراجيديا.
كانت الواقعية الجديدة بديلاً للواقعية التسجيلية الجافّة، وللواقعية الاشتراكية الدعائية. إلى الآن، لم يفقد أسلوب الحكي ـ الذي أسّسه فيديريكو فيلّيني ورفاقه ـ قوّته.
السيناريو شراع الفيلم والإخراج إبحاره. الأسلوب حاصل السمات التصويرية المُشكلّة للّغة السينمائية: مكانٌ واحد مُحدّد صغير، شخصيات غارقة في اليوميّ ولا تُبدي أي سمات بطولية. في جُلّ اللقطات، حدث مزدوج. في مقدمة الكادر وعمقه، العرض والسرد أكثف من الحوار في خلق المعنى. هكذا لا يوجد مكان مجاني خال من الحدث. زوايا الكادرات مختارة بعناية. يحرص المخرج على ألّا يقطع وجه الممثل عن الديكور. غالباً، يضع المخرج ثلاثة أشياء في منظور الكاميرا. هكذا لم يبقَ هناك فضاء غير مستغل في الخط نفسه.
يوظّف "قطار الأطفال" طريقة سرد مميزة، فيها اقتصاد وكثافة. في كل كادر معلومة وإحساس. لا يوجد كادر مجاني. يتقدّم الفيلم بسرد متماسك وأفعال تُحدث التأثير المنتظر. تمثّل لقطة تخلّص الطفل من شارة الحزب الشيوعي نموذجاً لهذا الاقتصاد الطافح بالمعنى. فيه حكاية أمّ وطفل. على الجدار لوحة مريم والمسيح. تشابهات جمالية إيطالية تُذكّر بأحد أكثر الأفلام تأثيراً في تاريخ السينما. باعتماد منهج السرديات الفيلمية المقارنة، يُقدّم "قطار الأطفال" تتمة مثالية لقصة الطفل برونو ريشي، في "سارق الدرّاجة" (1948)، لفيتوريو دي سيكا، ابن الجنوب الإيطالي أيضاً، الذي يروي جولة طفل رفقة والده في شوارع المدينة، ولهذا تبعات: بدرّاجته، بحث الأب عن عمل بكرامة أمام ابنه. حلّت ثلاث مصائب: الرجل بلا عمل مؤقت مياوم؛ سُرقت منه درّاجته، فحاول سرقة درّاجة، ما أدّى إلى الثالثة: ضُبط متلبّساً، ففَقَد كرامته أمام ابنه.
بطل "قطار الأطفال" محظوظٌ، إذْ ربّته رفيقة شيوعية طبّاخة. الطفل يكره بؤسه أكثر مما يحب أمه، لذا انتقل من سطوة الجوع إلى سلطة الكتب. يريد أنْ يكون مثقفاً لا كادحاً. حقّق حلمه.
رغم النهاية السعيدة لـ"قطار الأطفال"، فَقَد السيناريو قواه بعد الدقيقة 70. لم يعد هناك ما يمكن إضافته. بينما نهاية "سارق الدرّاجة" أقوى، وفيها يلتقط الطفل قبعة والده، وينفضها ست مرات بغضب. تتحرّك شخصية الطفل في أرضية جديدة. نهاية فيلم دي سيكا أفضل وأكثر دلالة، مع التحاق الطفل بمسيرة سارقي الدرّاجات. السارقون بالجمع، كالعنوان الإيطالي.