استمع إلى الملخص
- الفيديوهات المنتشرة أظهرت تجول السوريين بحرية في القصور، كاشفة عن ثروات العائلة الحاكمة التي كانت بعيدة عن الشعب الفقير.
- انتشار المقاطع أكد رسالة موحدة بأن البلاد تعود لأبنائها، مما يعكس سقوط حاجز الخوف وبداية جديدة للسوريين في استعادة وطنهم وحقوقهم.
"بلا إحم ولا دستور"، كما يقول التعبير الشعبي، حزم بشار الأسد أمتعته وأدبر هارباً، تاركاً بلاداً غارقة في الفساد والنهب والجوع، وما يقابلها مما لا يحصى من التحف في قصوره وقصور عائلته التي حكمت البلاد لأكثر من خمسين عاماً، كان الاستبداد والإفقار والقمع والتحريض طابعها العام.
بعد الفرار، أطل السوريون على شرفات قصر الشعب يتأملون من الحصن المشيّد على مرتفع كيف تبدو مدينتهم من ذاك العلو المحاط بكتل إسمنتية.
كان تصميم قصر الشعب، الذي أسس شكله الأولي المهندس المعماري الياباني الشهير كينزو تانغ عام 1975، يعرض التموضع السلطوي للنظام بالنسبة إلى الشعب. بناءً على هذه الفكرة، يكتب الصحافي جيرمي بوين، الذي زار القصر عام 2015، في صحيفة ذا غارديان: "من المدينة أدناه، خليط من المباني السكنية الخرسانية والمساكن المنخفضة الارتفاع، لا يمكنك الهروب من الشعور بأنك تحت المراقبة من بعض القوى الصامتة".
اليوم، تطابق الاسم ومعناه وتحوّل قصر الشعب بين ليلةٍ وضحاها إلى قصرٍ للشعب فعلاً. وفي مشاهد أقل ما توصف بأنها سينمائية، تجول السوريون في قصور الرئيس السوري السابق بشار الأسد، آخذين منه ما يحلو لهم من أوانٍ مزركشة ومعالق فضية وعطورات فخمة وملابس وأوراق وصور شخصية للرئيس الهارب.
في الفيديوهات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وسبقت بقليل دخول المعارضة دمشق، فجر الأحد، الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، رأينا ما لم نره من قبل، وما لم نكن نجرؤ على النظر إليه من الخارج، أو التمعّن بأسواره؛ دخلت كاميرات السوريين إلى الفضاء الداخلي الذي تنقل فيه آل الأسد، والذي لطالما تمنى السوريون لو أن لديهم قبعة إخفاء للتجول فيه والتلصص على الحياة الغامضة المترفة للعائلة الحاكمة.
بين الطوابق والأجنحة والردهات، مارس السوريون جولة فضولية إلى متحف الثراء، وكأنهم أمام فاترينة لامعة، أصبحت على حين غرة مشاعاً للشعب، الذي لم يملك من شدة إفقاره شراء ملعقة أو كأس أو طبق من الصنف الفاره الذي شاهده هناك.
كل شيء في القصور يغذي لدى السوريين حب الفرجة والتوثيق، فصوروا بكاميرات هواتفهم قصور الرئيس السوري السابق وعائلته في دمشق، القصور التي سلمها حراسها، وفتحت أبوابها أمام أفواج من المشاهدين المتعطشين، في الوقت الذي كانت فيه فصائل المعارضة تطلق النار احتفالاً عند مدخل القصر الجمهوري.
في قصر الشعب، تقول إحدى الزائرات: "نحنا ببيتنا ومطرحنا"، وتلج فضاءً غرائبياً بالنسبة إليها، كل ما تراه يدعو للدهشة، القصر الضخم الذي يصعد فيه الرئيس وزواره من طابق إلى آخر بمصعد كهربائي وتعلق بسخرية: "عم أطلب الأسانسير بس شكله ما في كهربا"، تضحك المجموعة التي رافقتها ثم يصعدون إلى مطبخ طويل عريض، تكدّس فيه ما لذّ وطاب من الأطعمة، ثم يأخذون ما يشتهونه ويمضون.
بدأت المقاطع بالانتشار بعد مقطع فيديو نشره الشاب بدر جحا، الذي دخل لبيت الأسد الأب في منطقة المالكي في دمشق، واستعرض إحدى صالاته المخصصة لصور العائلة الأشهر في سورية، وغرفة أخرى واسعة كلاسيكية الطراز للمنامة. في حديث لـ"العربي الجديد" مع جحا يقول: "لم أجد في البيت ما هو مثير للاهتمام فعلاً، باستثناء صور شخصيات غير معروفة سورياً". يكمل: "بعد ساعات، لم يبقَ في بيت حافظ الأسد شيء يذكر، حمل زواره معهم ما استطاعوا أخذه"، وذلك كما لو أنهم يأخذون غنيمة من الديكتاتورين الهارب والناهب، غنيمة ذات قيمة رمزية تمثل رد الاعتبار على كل الانتهاكات التي تعرضوا لها، أو تذكاراً لحقبة تراجيدية من التاريخ السوري المعاصر.
وحصل أحد السوريين على الغنيمة الأكبر وهي سيارة مرسيدس جي كلاس، كانت مركونة أمام أحد القصور وفي داخلها مفتاحها. هذه السيارة من الطراز الذي قد لا نراه إطلاقاً في الشوارع السورية.
اكتنزت عائلة الأسد جزءاً يسيراً من ثروتها في قصورها المغلقة في وجه أي مواطن، وكان لتفحصها عن كثب وقع الصدمة، فرأى السوريون أسعار ملابس وعطورات رئيسهم السابق التي يعادل سعر قطعة منها راتب موظف حكومي لأعوامٍ وأعوام.
في عام 2023، كشفت صحيفة ذا مِرور البريطانية عن حياة الترف التي يعيشها الأسد مشيرةً إلى أنه "لا أحد يعرف بالضبط أين يعيش بشار الأسد وزوجته أسماء وأطفالهما الثلاثة، فلديهم عدة قصور في جميع أنحاء البلاد، وثروة تقدّر بمليارات الدولارات".
ذكر التقرير ما جاء في سلسلة وثائقية أصدرتها شبكة بي بي سي عام 2018، بعنوان "سلالة خطرة – بيت الأسد"، وجاء في السلسلة أن قصر الشعب الرئاسي في دمشق يُستخدم لاستضافة اجتماعات مع القادة والمسؤولين الأجانب الزائرين، والصحافيين في بعض الأحيان، بدلاً من الإقامة العائلية، وكلّف بناؤه مليار دولار أميركي، واكتمل في عام 1990، وفق السلسة الوثائقية المكوّنة من ثلاث حلقات.
ذكر تقرير نُشر عام 1989، أن غرفة واحدة زوّدت بـ125 ألف بلاطة رخامية إيطالية، بسعر 85 دولاراً للقطعة، أي ما يعادل 10.6 ملايين دولار لغرفة واحدة.
وعند دخولهم قصر الشعب، حمل رجال عدة كراس أنيقة على أكتافهم. وأظهر مقطع مصور آخر في القصر الرئاسي في حي المهاجرين، تحقَّقت "رويترز" من صحته، تظهر فيه مجموعات من الرجال والنساء يسيرون عبر أرضية من الرخام الأبيض، وعبر أبواب خشبية طويلة، وكان بينهم رجل يحمل مزهرية في يده.
في فيديو آخر، يشار إلى أنه صوّر من القصر عينه، لعب الأطفال وركضوا في صالات القصر الواسعة.
وهناك فيديو مدهش، مصور من داخل قصر رفعت الأسد، يفوق كل ما رأيناه من قصور فخامةً وأبهة، فهذا الصرح يعج بالتحف الباهظة الثمن، والتي أكلت النيران جزءاً كبيراً منها.
وكشف مقتحمو قصر ماهر الأسد (شقيق بشار)، عن سرداب ضخم بعمق طابقين تحت الأرض مزود بسكة حديدية للنقل بين الطوابق، ويؤدي النفق إلى قاعة تحتوي مخبأ وخزنة يحتفظ ماهر فيهما بوثائقه المهمة.
جاءت هذه المقاطع مع إعلان صريح وموحّد، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ينصّ على أن سورية للسوريين وليست لآل الأسد، وذلك بعدما سقط التابو وهوت القدسية النابعة من الترهيب والتخويف، التي لطالما أحاط آل الأسد أنفسهم بها، وكمموا من خلالها ملايين الأفواه لمنعها من أبسط أشكال التعبير.