استمع إلى الملخص
- فيلم "ليه فالسوز" (1974) أثار جدلاً بسبب نقده الاجتماعي العميق، وجذب أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد رغم الاستقبال النقدي السيئ. فيلم "Beau-Pere" (1981) تناول مسائل حساسة، مظهراً جماليات الدراما والفكاهة السوداء.
- فيلم "الممثلون" (2000) يوثق مهنة التمثيل بأسلوب فريد، ويعكس أسلوب بلييه المتمرد من خلال تسليط الضوء على المهمشين واللصوص بأسلوب استفزازي وساخر.
"الإخراج ليس عملاً سهلاً. عليك أنْ تحبّ الممثلات، وأنْ تؤدّي دور الأب للممثلين، وأنْ تضحك معهم ومعهنّ. وأيضاً، أنْ تعرف كيف تصنع شيئاً من السينما، في الوقت نفسه". قولٌ للفرنسي برتران بلييه، الراحل في 21 يناير/كانون الثاني 2025، يختزل نمطاً من اشتغالٍ في بعض نتاجاته، يوصف بالاستفزاز، إذْ يسعى مخرج Les Valseuses، ثاني روائي طويل له (1974) بعد "لو كنتُ جاسوساً" (1967)، إلى إثارة "بلبلةٍ" في مُشاهدة وتفكيرٍ وانفعال، بما يصنعه من صُور سينمائية، رغم قلّة أفلامه الطويلة (18 فقط)، المُنجزة بين عامي 1967 و2019.
أيكون القول السابق ركيزةً مهنيّة، أمْ نكتة مبطّنة في تأمّل عميق في سيرة ماضية، خاصة أنّ القول هذا واردٌ في حوار بنجامن بويَشْ معه، منشور في "لو فيغارو" (صحيفة يومية فرنسية) في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020؟ أيكون خلاصةً يقتنع بمضمونها، بعد أعوامٍ من اشتغالٍ وجهدٍ وحراكٍ، يجمع الاستفزازيّ بالكوميديّ الساخر والنقد "الشرس" لتقاليد ومفاصل في حياةٍ وطبقاتٍ اجتماعية؛ أمْ مجرّد خاطرةٍ يُطلقها بعد أشهرٍ على إنجازه آخر فيلمٍ له (2019)، أي "قافلة استثنائية (Convoi Exceptionnel)"، برغبةٍ أو من دون رغبةٍ في بلورتها لاحقاً؟
في الحوار نفسه كلامٌ آخر يستدعي نقاشاً، كالسينما بحدّ ذاتها والكتابة (له مؤلّفات عدّة) والتمثيل، وعلاقته بوالده، الممثل برنار بلييه (1916 ـ 1989)، والشيخوخة وعلاقتها بالمهنة. يردّ على سؤال عن مدى شوقه إلى التصوير مُجدّداً، بقوله إنّه غير مهووسٍ بـ"فكرة التصوير"، فبالنسبة إليه، لديه "ما يكفي من الأفلام". يُضيف: "طبعاً أستطيع الاستمرار. لكنّ الأمر صعب في هذه الأوقات. عندما تكتب أشياء أصلية، لا يفهم المنتجون (عليك)"، أو ربما "يجب العثور على الشخص المناسب".
بعد إعلان نبأ رحيله، يُستعاد Les Valseuses فوراً: نقدٌ اجتماعي (أيصحّ وصفٌ كهذا لفيلمٍ يمتلك حساسيات أعمق وأكبر؟) يترافق والغوص في بؤرٍ فرنسية، في سبعينيات القرن الـ20، عبر ثلاثة أشخاص (رجلان وامرأة) يجوبون بلداً هرباً من سرقة، ويصنعون ثقوباً في البنيان الأخلاقي. ورغم منع القاصرين عن مشاهدته، والاستقبال النقدي السيئ، يجذب الفيلم أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد، منذ بدء عرضه التجاري في 20 مارس/آذار 1974.
فيلمٌ آخر له يُستعاد أيضاً: Beau-Pere، المنجز عام 1981. بتناوله مسائل حسّاسة، كالفقدان والحزن والعلاقات "المُثيرة للجدل" بين مراهقين وبالغين، يكشف برتران بلييه مزيداً من جماليات اشتغاله السينمائي، والأبرز فيها ذاك المزيج، المُعبّأ بنَفَسٍ ولغةٍ تبرعان في المواربة البصرية لقول المُراد تعريته، بين الدراما والفُكاهة، والأخيرة تُلصق بها مفردة "السوداء"، لأنّ الفُكاهة غير مكتفية بإضحاك عابر، إزاء لقطات تُعتبر متنفسّاً، وإنْ قليلاً، إزاء ثقل (جمالي طبعاً) في معالجة المطروح، مع أفرادٍ يُصابون بأعطابٍ وأهوال.
أمّا "الممثلون" (2000)، الذي يجمع 25 ممثّلاً وممثّلة (بعضهم/بعضهنّ يعمل في مهنٍ سينمائية أخرى أيضاً، كالإخراج) أمام كاميرا فرنسوا كاتونّي، فنموذجٌ يخرج من العاديّ في توثيق كلامٍ وشخصيات، ليغوص في أعماق أناسٍ يعملون في مهنةٍ واحدة (التمثيل أساساً). والفيلم، إذْ يوحي بأنّه وثائقيّ عن مهنة التمثيل بحسب عاملين/عاملات فيها، يقول شيئاً من غير المعروف في كواليس تلك المهنة، وفي ذوات من يروي حكاياتٍ لزملاء وزميلات، إمّا بشكل مُرتَّب سلفاً، أو بعفويةٍ تكاد تطغى على النصّ والسرد. جوهر الحكايات مهنةٌ يطرحون تساؤلات عنها "بمسافةٍ معينة"، مع غلبةٍ محبَّبة لسخريةٍ، يصعب على بلييه التنصّل منها كلّياً.
السابق أمثلة أقلّ من المُنجز السينمائي. محاولةُ إعادةِ مُشاهدة/قراءة بعض ما في سينما برتران بلييه، المولود في 14 مارس/آذار 1939، الذي تتميّز أفلامه "بأسلوبٍ متمرّد" على تقاليد ومفاهيم. أصالة إنجازاته حاضرةٌ، ونصوصه السينمائية غير تقليدية، بل أحياناً تكون غير مُتوقَّعة. شخصيات أفلامه مستلّة من قاع الحياة والمجتمع: مُهمّشون، بغايا، مُتلصّصون، رجال شرطة، لصوص، وغيرهم، فإذا باشتغالاته تعكس مرارة عيشٍ وبؤساً وقهراً، بمفردات تُختزل نقدياً باثنتين: الاستفزاز والسخرية.